يوم الأحد السادس عشر من أبريل سنة 2006م، نشرت إحدى الصحف خاطرة عنوانها (لِمَ لا نكتُب بالعامية؟). ولما كان كاتب الخاطرة من جهابذة اللغة فإن له الحقَّ أن يسأل.
ولما كنت من صغار التلامذة فإن من واجب التلامذة أن يجيبوا عن أسئلة الأساتذة لئِلا تبقى أسئلتهم بلا أجوبة، ولئلا تبقى أدمغة التلامذة متجمدة، تقرأ ولا تفكر، وتُؤمر فلا تعترض، ويُملى عليها فلا تناقش.
يقول الكاتب: (أذكر أنني قرأت العامية في الصحف الكويتية والمصرية) ولكنه لا يسمي هذه الصحف، أهي الرأي العام أم الأهرام؟ أم هي مجلات الأطفال التي تتحدث عن ميكي ماوس؟
وهبة صدق فيما نطق، وقرأ ما قرأ في الجمهورية والأخبار فهل يعني هذا العدول عن الحق إلى الباطل، وأنى للباطل أن يزاحم الحقّ ويزحمه؟
ثم يقول: (إذا لم تكن العامية جديرة بدخول الصحيفة الرئيسية، فما الضرر لو خصص لها ملحق يومي؟)، الضرر أن إدخال العامية في الصحف كإدخال المرض في الجسم، واقحام الجهل في العلم، ومحاربة التقدم بالتخلف، ومزاحمة التثقيف بالتسخيف، ومساواة المعاقين بأبطال كمال الأجسام، ووضع النقص إلى جانب التمام، والضلالة في صف الهداية.
الضرر يا صاحب الاقتراح أن الصحيفة وسيلة إعلام، والإعلام مشتق من العلم، وأن واجب الإعلام الرقي بالمجتمع لغة وفكرا وخلقا وسلوكا وثقافة وفنا.
والعامية أياً كان البلد العربي الذي تنتمي إليه تبقى لغة الشارع والسوق، والدعوة إليها لا تعني محاربة الرسالة التي تضطلع بها وسائل الإعلام وحسب، وإنما تعني محاربة المدارس والمعاهد والجامعات وقنوات الفضاء ومنابر الخطباء والعودة بالناس مرة أخرى إلى عهد الأمية.
ثم يقول: (إن العامية الإماراتية هي الأقرب إلى الفصحى من أخواتها العاميات العربيات). وسواء أكان هذا الحكم له أو لغيره، فإن فيه من المفاخرة الفارغة مثل ما فيه من الجهل بطبيعة الفصحى.
وبالأشكال المنحرفة المتحدرة عنها، وباللهجات المذمومة التي تتنافس وتتباهى وتدل في أثناء تنافسها وتباهيها بأنها أقرب اللهجات إلى الفصحى. وآخر كلامه ينقض أوله.
فإذا كانت اللهجة الإماراتية أقرب من سواها إلى الفصحى فلماذا نعدل عن التامة إلى الناقصة، أي عن الفصحى إلى العامية سواء أكانت إماراتية أم مصرية؟
ومن قال له: إن عامية الإمارات هي الأقرب الى الفصحى؟ وما الدليل على ما يقول؟ حينما نتحدث عن اللهجات العامية يحسن بنا أن نتجنب أسماء التفضيل، وأن نستخدم أسماء الترذيل، فليس في العاميات كلها لغة أفصح من لغة.
ولا لهجة أجمل من لهجة، وإنما فيها أقبح لا أفصح، وأبعد لا أقرب، وأسوأ لا أحسن. فهي تتفاوت في القبح والبعد والسوء والانحراف والخطأ، ولا تتفاوت في الجمال والقرب و الحسن والاستقامة والصواب.
إن التعصب يعصب عيني الحق، فيقلب الدارس الحقائق، وهو يدعي الموضوعية: الدكتور عبدالمنعم سيد عبدالعال درس لهجة شمال المغرب، وتوصل بعدما قارن ووازن، وحلل وعلل، الى الخلاصة التالية:
(مما سبق يتضح أن اللهجة المغربية أقرب اللهجات الحديثة إلى العربية الأم، كما أنها على صلة بأخواتها في الوطن العربي، وهي في شكلها الحالي ليست إلا نتيجة تطور اللهجات العربية القديمة).
فكيف يصدق القارئ هذا الادعاء، وهو يعلم أن موطن هذه اللهجة أبعد المواطن عن نجد والحجاز مهد العربية الأم؟ وهل يعقل أن تكون اللهجة التي خالطت لغة الأمازيغ، ولغات الأفارقة والاسبان والفرنسيين طوال سنين أفصح من لغات الدهناء ونجد والحجاز؟
السر في هذه الفرية المفتراة التعصب، ولو اجتاز الإنسان العربي وطنه كله من الرباط إلى رأس مسندم لوجد كل قطر يدعي هذه الادعاء، ثم يشفع الادعاء بدراسة تتناول اللهجة العامية الإقليمية.
وأدل ما يدلك على ذلك دراسة قامت بها الدارسة الكويتية شريفة معتوق، عنوانها (لهجة العجمان) والعجمان قبيلة من قبائل الجزيرة العربية، زعمت فيها أنها تريد (التقريب بينها وبين اللغة العربية الأم). فكيف يكون هذا التقريب؟ التقريب في نظري أن تلقى كل هذه الدراسات، وأن تنشر الفصحى بالإعلام والتعليم.
وأن يقلع هؤلاء الدارسون عن دراسات لا تسمن ولا تغني من جوع، وينحصر أثرها في شيء واحد، وهو مداعبة المشاعر الوطنية الإقليمية والادعاء بأن لغة هذا القطر أفصح اللغات ولهجته أجمل اللهجات وهذه المداعبة عن التحقيق ليست إلا انبعاثا للقبلية والإقليمية وترسيخا للتجزئة والفرقة وتعبيرا عن الإصرار على الضلال:
(وما يستوي الأعمى والبصير. ولا الظلمات ولا النور، ولا الظل ولا الحرور. وما يستوي الأحياء ولا الأموات. إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور) فاطر (1922).
وإذا كنت أرفض ادعاء من ادعى أن لهجة المغرب أفصح اللهجات، فإنني في الوقت نفسه ـ وأنا إماراتي أحب وطني أكثر مما أحب نفسي ـ أرفض ادعاء من ادعى أن لهجة الإمارات أفصح اللهجات.
وكيف تكون أفصح اللهجات، وهي معرضة كل يوم لمخالطة لغات البشر كافة التي تغزوها في عقر دارها؟ وأنى للقارئ أن يثق بصحة هذه اللهجة وفصاحتها إذا كان الناطقون بها يتعلمون من لغات عمالهم وخدمهم أكثر مما يعلمونهم من اللهجة الإماراتية؟
لقد رفض علماء اللغة والنحو في القرن الثاني الهجري، الأخذ من لهجات أهل الخليج ومصر والشام حينما صنعوا المعاجم وقواعد النحو، مع أن شيخ اللغويين والنحاة ـ وهو الخليل بن أحمد الفراهيدي ـ كان من أهل هذه البلاد (عُمان).
رفض ذلك الأخذ قبل اثني عشر قرناً وذهب مذهبه كل النحاة واللغويين من أحمد بن فارس اللغوي (توفي 395هـ ) الى جلال الدين السيوطي (توفي 911 هـ )، وعللوا رفضهم بفساد هذه اللهجة لمخالطتها لغات الفرس والهنود كما فسدت لغة غسان بمخالطة الروم ولغة اليمن بمخالطة الأحباش.
فهل يستطيع كاتب المقال أن يحصي اللغات التي تتأثر بها ألسنة الناطقين بالعربية في دولة الإمارات؟ إذا استطاع أن يحصي فعليه أن يستشير الخليل بن أحمد قبل أن يزعم ما زعم.
وبعد، فإليك هذا الخبر؟ البرازيلية (ماريا داس دوريس دي أوليفيرا) تتطلع أن تكون أول سيدة تنتمي للسكان الأصليين، تحصل على دكتوراه تتناول مسألة إنقاذ لغة قومها التي يتحدثها عدد لا يتجاوز (11) شخصا فقط لا غير؟
والسيدة أعلاه (42) عاما، ستناقش رسالتها أمام جامعة (الأجواس) الاتحادية في شمال شرق (ماسيو) البرازيل، وهي تنتمي إلى قبيلة (بانكارارو) وقد درست التاريخ والتربية، وسعت للحصول على الدكتوراه بسبب رغبتها في توضيح أن السكان الأصليين ليسوا مجرد سكارى ومتشردين كما يدعي الكثيرون.
فليعتبر المعتبرون، وإلا فإن المتربصين بنا ملء السهل والجبل!!
كاتب إماراتي