يحكم البيئة الثقافية للمجتمعات العربية ثلاثة خطابات: خطاب تربوي تعليمي، وخطاب إعلامي وخطاب ديني، أما الخطاب التعليمي فهو تلقيني أحادي أنتج عقلية منغلقة يسهل انزلاقها للتعصب، وخرج جيوشاً من العاطلين يفتقدون المهارات اللازمة لسوق العمل.

وأما الخطاب الإعلامي فلا يزال خطاباً تعبوياً يغذي المشاعر العدائية والصراعات ويتبنى لغة الشحن العاطفي والتهييج والإثارة، كل همه كسب المشاهد العاطفي عبر تصيد سيئات الآخر وتضخيمها، في تنافس غير صحي، الفائز فيه الأكثر تهييجاً وإثارة!! وأما الخطاب الديني ـ التقليدي والسلفي والصحوي ـ فهو خطاب مأزوم فشل في صيانة مجتمعاتنا وشبابنا من أمراض التطرف والتشدد والغلو والانغلاق.

وإذ لا أمل في ترشيد الإعلام، ولا يبدو في الأفق ما يدعو للتفاؤل بشأن إصلاح التعليم فلا يبقى إلا المراهنة على تجديد الخطاب الديني بوصفه الأكثر فاعلية وقبولاً في ارتقاء الثقافة المجتمعية. وهنا نطرح تساؤلات ثلاثة: الأول: ما أهمية تجديد الخطاب الديني؟

إن تجديد الخطاب الديني، ضرورة ملحة لعبور فجوة التخلف، والتجديد خاصية هذا الدين، وأن الله يبعث لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها، وعندنا أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وقد كان التجديد مسعى أساسياً في مسيرة الثقافة العربية والإسلامية منذ فجر الإسلام ـ إعلان باريس ـ وما قامت حضارتنا وامتدت إلا بفكر وخطاب متجددين.

وحين توقف التجديد ران على العقل الإسلامي الصدأ، عبر ألف عام، فالحاجة ملحة الآن لإعادة تشغيل طاقات التجديد بخطاب ديني منفتح على العصر وقادر على مواجهة التحديات وتحمل المسؤوليات، ومن السخف أن يقال ان الآخر يملي علينا ويطالبنا بالتجديد فلنؤجل أو نرفض نكاية به، فهذا عبث لا يلتفت إليه، لأن هذا الخطاب المأزوم قد أزمن واستطال وعمق الخلافات والانقسامات المذهبية والطائفية وشحن شبابنا بثقافة معادية للحضارة!!

أما السؤال الثاني فما أزمة الخطاب الديني الراهن؟ إن أزمة الخطاب الديني تكمن في عجزها عن تحقيق ثلاث مهام أساسية:

1ـ تحصين مجتمعنا ضد أمراض التطرف وجراثيم فكر العنق.

2ـ تفعيل القواسم المشتركة بين الأديان والمذاهب.

3ـ تقديم صورة إيجابية عالمية للإسلام.

ويرجع هذا الفشل أو الإخفاق إلى جملة من العناصر والسمات، منها:

1ـ النزعة الماضوية التي لازمت الخطاب الديني وجعلته أسيراً للماضي، يعيد إنتاج مقولات الفقهاء ويبحث في الماضي حلولاً لمشكلات الحاضر، متوجساً من التغيرات المجتمعية، قلقاً من التطورات المستقبلية، غير منفتح على ثقافة العصر وعطاءاته الإنسانية.

2ـ تمجيد التاريخ والتغني بالأمجاد والمآثر والانتصارات والرموز والأبطال عبر انتقاء لحظات مضيئة في التاريخ مع تجاهل تام لألف عام من مظالم استبداد وانقسامات وحروب عراقية ضد بعضنا وضد الشعوب الأخرى، ظناً بأن أي نقد للتاريخ هو نقد للدين مع أنه تاريخ بشر حافل بما يوجب النقد والتقصي والتصحيح ولا قداسة للأفراد مهما عظمت مكانتهم.

3ـ الصبغة الذكورية: خطابنا الديني محكوم بإرث ثقافي ينتقص من المرأة إذ يراها (أنثى) مصدر الفتنة والغواية لا «إنساناً» له كل الحقوق، ولذلك يفرض عليها وصاية الرجل ليرشد تصرفاتها، ومع أن المرأة المعاصرة وصلت إلى مناصب قيادية، إلا أن منطق الخطاب الديني قائم على إعلاء الذكر وحقه في منعها من قيادة السيارة أو السفر أو العمل أو الخروج، مفتي استراليا شبه المرأة باللحم المكشوف الذي يغري القطط، وطردت باريس إماماً دعا لضرب الزوجات. المرأة في الخطاب الديني لها مهمتان: إسعاد الرجل وتربية أولاده!!

4ـ السمة الإقصائية: الخطاب الديني، خطاب إقصائي للآخر المختلف ـ مذهباً أو طائفة ـ إذ هو مشكوك في عقيدته، فالعقيدة الصحيحة واحدة، أصحابها ناجون، أما بقية الفرق الإسلامية فهي ضالة أو منحرفة أو ـ لدى البعض ـ مبتدعة.

5 ـ النزعة الاتهامية: النغمة السائدة في الخطاب الديني هي لوم الآخر واتهامه، إذ يصور العالم مؤامرة على المسلمين وغزواً ثقافياً وعولمة خبيثة بدءاً بالفتنة الكبرى على يد (ابن سبأ) مروراً بحكماء صهيون وانتهاء بالصليبية الحاقدة بزعامة أميركا. والغرب شيطان لا يريد خيراً للمسلمين وهو عدو متربص علينا أن نحذره وهو مادي وإباحي يريد إفسادنا، بل إن الخطاب الديني اتهامي لكل من يختلف معه في شأن سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي بأنه عميل يخدم مخططات الغرب!!

6 ـ الإطلاقية: الخطاب الديني خطاب مطلق يعتقد أنه يملك الحقيقة المطلقة، لا يؤمن بنسبية المعارف والحقائق الإنسانية.

7 ـ التحريضية: الخطاب الديني، خطاب تعبوي تحريضي دائماً، حرض شبابنا على الالتحاق بالمجاهدين في العراق وأفغانستان وفلسطين الخ، ووصف تفجير النفس ولو في المدنيين والأطفال في تلك البلاد بأنه (أسمى) صور الجهاد!! ولم يتورع عن التحريض ضد كتاب ومثقفين وفنانين بالتشكيك فيهم ومصادرة إنتاجهم وملاحقتهم، ولم يعرف المجتمع الخليجي هذا الأسلوب التحريضي التهييجي إلا بعد غزو الإسلام السياسي.

8 ـ التبرير: يفسر الخطاب الديني، الطرح الإرهابي بأنه جاء كرد فعل للظلم الأميركي والغربي ولذلك يلتمس مبررات متعددة للإرهابيين وهي إما مبررات سياسية ـ فلسطين والعراق والكيل بمكيالين ـ أو اقتصادية مثل البطالة أو اجتماعية: خروج المرأة والتبرج والاختلاط وشيوع المنكرات أو إعلامية: المسلسلات والحفلات الغنائية أو يعلل العمل الإرهابي بمظالم الأنظمة العربية وتبعيتها للخارج. وكل هذه المبررات، هراء.

وذلك التفسير أو التعليل خطأ سياسي ومعرفي لأن الإرهاب فعل قائم بذاته له أيديولوجيته وأهدافه، وجدت تلك المبررات أو لم توجد وإلا ما تفسير ظهور الخوارج القدامى؟ الإرهابيون أبناء بررة لخطاب ديني متعصب، هم نتاجه ـ قبل الاحتلال وبعده ـ وهم جميعاً يسقون من منبع مسموم واحد هو (المنبع التكفيري).

9 ـ تغييب دور العلم والعقل: يتجاهل الخطاب الديني العلم والعقل حينما يحاول إقناع الناس بأن الزلازل والأعاصير، عقوبة إلهية للذنوب والمعاصي، ما ذنب الأطفال والأبرياء؟!

10 ـ عدم الواقعية: ينشد الخطاب الديني (المثاليات) ويتجاهل الواقع، يتحدث عن التسامح ولا يلاحظ أن المسلمين يفتقدون الحد الأدنى للتسامح فيما بينهم فضلاً عن الآخرين، يتباهى بحرية العقيدة ولا يسمح ببناء معابد لأصحاب الديانات الأخرى، يثير المعارك حول أمور فرعية خلافية ـ النقاب الموسيقى، اللحية، الاختلاط ـ ولا يغضب لانتهاك الحريات.

يدعو لمسيرات المقاطعة والاحتجاج والغضب ولا يدعو لمسيرات ضد التعذيب الممارس في سجون عربية!! هل سمعت خطاباً دينياً ضد التعدي على حقوق الإنسان؟! لا يمل الحديث عن تكريم الإسلام للمرأة ولكنه لا يقول لنا لماذا انقلب المجتمع ضد المرأة ومارس التمييز ضدها!!

الآن: السؤال الثالث: هل يمكن تجديد الخطاب الديني؟

لا يمكن تجديد الخطاب الديني إلا بتجديد الفكر الديني المحاصر بثالوث (سلفية تكفيرية، صحوية، إخوانية، تراثية ماضوية)، وأهم عناصر التجديد:

1 ـ إحياء النزعة الإنسانية المغيبة في الخطاب الديني واحتضان الإنسان لكونه إنساناً مكرماً من قبل خالقه: مسلماً أم غير مسلم، ذكراً أو أنثى، سنياً أو شيعياً، سلفياً أو متصوفاً.

2 ـ التركيز على القواسم المشتركة بين الأديان والمذاهب وإضاءة أوجه الشراكة النافعة وتجنب الخلافات والنفخ فيها.

3 ـ الانفتاح على واقع المجتمعات وآفاق المعرفة الإنسانية وأفق المقاصد الشرعية.

4 ـ تعزيز قيم المواطنة والانتماء وإعلاء حقوق الإنسان واحترام التعددية.

5 ـ إعادة الاعتبار لمفهوم الجهاد الإسلامي بعد أن شوهه دعاة التطرف وذلك بتبني مفهوم إنساني رحب للجهاد، فالجهاد الحق هو أن نحيا ونعمر وننتج ونتقدم في سبيل الله.

6 ـ تفكيك تحالف السلطة الدينية مع السلطة السياسية التي توظف الخطاب الديني لأهدافها.

7 ـ إعادة تثقيف الأئمة والخطباء وتطوير المناهج الدينية وتخصيبها بأفكار المجددين.

8 ـ تبني المنهج النقدي وإشاعته والانفتاح على المعارف الإنسانية.

9 ـ التمييز بين تاريخ المسلمين والإسلام، وعدم الخلط بين الدعوي والسياسي، والفصل بين ما هو رأي فقهي وما هو أصل شرعي؟

كاتب قطري