يتفق المؤرخون الآن على أن العرب هم الذين نقلوا مشعل الحضارة إلى أوروبا بدءاً من القرن الثاني عشر الميلادي. فقد قدمت الحضارة الإسلامية للأوروبيين المعارف الأساسية في كافة المجالات من علمية، وفلسفية، وطبية، وهندسية، وزراعية، وفلكية الخ... وبناء على ذلك راح علماء أوروبا ومثقفوها يشيدون حضارتهم الحديثة التي سبقتنا فيما بعد.
وما إن سبقونا وتجاوزونا بأشواط بعيدة حتى راحوا ينكرون أي مديونيّة لهم تجاهنا. بل وأصبحوا ينظرون إلينا بنوع من الازدراء والاحتقار بسبب عنجهيتهم وعرقيتهم المركزية إن لم نقل عنصريتهم.
ولكن بقيت فيهم بعض الأصوات المنصفة التي تتحدث عن الإرث العربي ودوره في تعليم الغرب وتثقيفه عندما كان لا يزال يغطّ في ظلام العصور الوسطى. وقد كثرت هذه الأصوات في السنوات الأخيرة.
نذكر من بينها على سبيل المثال لا الحصر أعمال الباحث الفرنسي آلان دوليبيرا وبعض الباحثين الاسبان وغير الاسبان. فكيف تم انتقال الفكر العربي إلى أوروبا يا ترى؟ وعن طريق أي قنوات؟ وكيف استوعبه الأوروبيون وهضموه؟ هذا ما سنحاول أن نجيب عنه الآن.
لقد وصل العرب إلى اسبانيا عام 711م. وبعد نصف قرن فقط من إقامتهم هناك راحوا يشكلون امبراطورية سياسية وثقافية واسعة عاصمتها قرطبة.
وكان ذلك في ظل السلالة الأموية التي هربت من المشرق لكي تستقر في الأندلس. من المعلوم أن الحضارة الإسلامية كانت قد عرفت كيف تستفيد من العلم الإغريقي وتنقله إليها خلال القرون الثلاثة الأولى للهجرة ولكنها لم تكتف بعلم اليونان وإنما اطلعت على ثقافة فارس والهند أيضاً.
لقد عرف المسلمون الذين اشتهروا آنذاك بتسامحهم وانفتاحهم على الثقافات الأخرى كيف يصهرون كل هذه المعارف والعلوم في بوتقة اللغة العربية. لقد عرفوا كيف يجعلون من العربية لغة علم وفلسفة وليس فقط لغة شعر وأدب ودين وفقه..
وقد اكتشفوا المنهج التجريبي منذ ذلك الحين. وكان خلفاء المسلمين قد رعوا العلوم والفلسفات وشجعوا عليها في بغداد أولاً ثم القاهرة ثانياً. ففي بغداد أنشأ المأمون بيت الحكمة، وهو عبارة عن مركز للترجمات والبحوث بالمعنى الحديث للكلمة. وعن طريق هذا المركز الكبير ترجم العرب كل الفلسفة والعلوم الإغريقية تقريباً.
ثم أضافوا إليها ملاحظاتهم العملية ومكتشفاتهم الخاصة أيضاً. وكان ذلك عبر المنظور الإسلامي الكوني واللغة العربية. ثم حصل بعدئذ في إسبانيا أكبر تفاعل عرقي وثقافي بين الغرب والشرق. وكانت قرطبة في القرن العاشر الميلادي أهم عاصمة إسلامية في وقتها، وأكثر مدن أوروبا تقدماً وحضارة. كانت أهم من باريس ولندن وأكسفورد وروما في ظل الخليفة العظيم عبد الرحمن الثالث، ثم ابنه الحكم الثاني.
ويقال بأنه كانت توجد في قرطبة آنذاك أكثر من مئة مكتبة عامة. ومن أهمها مكتبة الحكم الثاني التي كانت تضم أكثر من 400.000 كتاب!... وهذه الكتب كانت تشمل جميع موضوعات المعرفة، وقد استوردت من الخارج عن طريق رجال الخليفة.
يقول المؤرخ الاسباني رامون مينيديز بيدال بهذا الصدد ما يلي: كانت اسبانيا حلقة الوصل بين المسيحية والإسلام. وإذا كانت معظم المؤلفات الفكرية في العصور القديمة تعود إلى الإغريق، فإن التقدم الفكري والعلمي الذي تحقق بين القرنين الثامن والثاني عشر الميلاديين يعود إلى المسلمين دون شك.
وكانت اللغة العربية عندئذ هي لغة التقدم والحضارة. هذا في حين أن اللغة اللاتينية التي كانت تهيمن على أوروبا المسيحية كانت فقيرة بالفكر والعلم والفلسفة. كانت مجرد لغة دين ولاهوت مسيحي في ذلك الزمان. وهذا ما يشهد عليه الفيلسوف الإنجليزي روجيه بيكون الذي عاش في القرن الثالث عشر.
لقد كانت الحضارة العربية-الإسلامية متفوقة جداً آنذاك على أوروبا. ولذلك أثرت عليها كما يؤثر المتقدم على المتأخر دائماً. وقد نقل الفكر العربي في القرنين الثاني عشر والثالث عشر إلى اسبانيا. ومن اسبانيا راح يشعّ على بقية بلدان أوروبا. ولكن عملية النقل كانت قد ابتدأت في الواقع قبل ذلك. فبدءاً من القرنين التاسع والعاشر راحت اسبانيا الإسلامية تهضم كل التقدم العلمي والفلسفي والتكنولوجي الذي حصل في المجال العربي.
ينبغي القول بأن أوروبا كانت تعاني في ذلك الحين من انحطاط روحي ومادي كبير. صحيح أنه كانت توجد فيها بعض النسخ الفلسفية والعلمية الإغريقية. ولكنها اختفت أثناء هجوم القبائل البربرية الشمالية. يضاف إلى ذلك أنه لم يكن يوجد في أوروبا مفكر واحد قادر على ترجمة أرسطو آنذاك. وبالتالي فقد ظل العلم الإغريقي مجهولاً حتى مجيء العرب إلى اسبانيا.
ولكن كيف حصل الانتقال الثقافي بين حضارتين تتصارعان بكل قوة على الصعيدين السياسي والديني؟ هذا هو السؤال الذي ينبغي أن نجيب عنه الآن. في الواقع إنه كانت هناك سبع قنوات لنقل العلم العربي إلى أوروبا. وهي على النحو التالي:
1. انتقال الأخبار والأشعار العربية إلى جنوب فرنسا وشمال إيطاليا عن طريق الشعراء الجوالين والغنائيين (التروبادور).
2. انتقال الأفكار عن طريق الرحّالة الأوروبيين الذين زاروا الأندلس والمنطقة الحدودية لإسبانيا المسيحية لكي يتعرفوا على الثقافة المتفوقة والعليا للعرب.
3. تم الانتقال أيضاً عن طريق الاحتكاك التجاري الذي ما انفك قائماً بين أوروبا وعالم الإسلام على الرغم من كل الحروب والصراعات.
4. تم الانتقال أيضاً عن طريق المحاولات المكثَّفة لتأمين التقارب السياسي والثقافي بين اسبانيا الإسلامية والبلدان الأوروبية. وقد قامت بهذه المحاولات البعثات والسفارات الدبلوماسية.
5. عن طريق اللاجئين السياسيين المسيحيين الذين كانوا يفرون من اسبانيا أحياناً عندما تشتدّ الخصومة الدينية بين الطرفين. وكانوا ينقلون معهم ثقافة العرب المتفوقة الى بقية البلدان الأوروبية التي يلتجئون اليها كفرنسا وايطاليا وسواهما.
6. عن طريق رهبان الأديرة الاسبانية الذين احتكّوا بالعرب وتعلموا لغتهم وأصبحوا قادرين على ترجمة المؤلفات العربية في مجال الرياضيات والفلك والتقنيات وسواها...
7. أخيراً تم نقل العلم العربي –وبشكل أساسي- عن طريق مدارس الترجمة. وقد تم تأسيس هذه المدارس بعد استيلاء المسيحيين على طليطلة. لقد أُسست في هذه المدينة مدرسة ترجمة ضخمة من قبل الملوك المسيحيين والمطارنة.
وكان هدفهم أن يطلعوا بعمق على كل الحكمة العربية أو المعرفة الإسلامية المتراكمة في مكتبات طليطلة المليئة بالمؤلفات التي كانت تنتمي سابقاً إلى ملوك المسلمين. يقول المستشرق الهولندي المعروف دوزي في كتابه تاريخ المسلمين في إسبانيا: الشيء الذي يثير الإعجاب والدهشة عندما ندرس العهد المجيد للخليفة عبد الرحمن الثالث هو ذكاؤه الكوني واطلاعه الواسع الذي لا يفوته شيء تقريباً. وقد بلغ تسامحه إلى حد أنه راح يستشير رجالاً لا ينتمون إلى دينه، وأقام حضارة حقيقية في اسبانيا. بهذا المعنى فإنه يشبه حكَّام العصور الحديثة لا حكَّام العصور الوسطى...
بدءاً من القرن الثاني عشر راح العلماء الأوروبيون والاسبان يتجمعون في مدارس الترجمة الموجودة في طليطلة وأراغونيا. وتشكلت فرق عديدة للترجمة. وكانوا يعملون على النحو التالي: من يعرف العربية بشكل أفضل كان يقرأ بصوت عال ويترجم مباشرة ما يقرأه إلى اللغة اللاتينية.
وكان الناسخ يكتب كل ذلك عنه بشكل فوري. وكان من بين المترجمين إنجليز وإيطاليون وفرنسيون وصقليون وآخرون عديدون.
كلهم راحوا ينشرون المفاهيم الثقافية الإسلامية ويتعرفون على المنطق والفلسفة والعلوم العربية. عندئذ كان مفكرو الإسلام هم أساتذة أوروبا حقاً. نذكر من بينهم الغزالي، والفارابي، والكندي، وابن سينا، وابن رشد، الخ... ولكن لا ينبغي أن ننسى أهمية الترجمة العلمية.
فالواقع أن اهتمام علماء أوروبا تركز آنذاك على ترجمة كتب الرياضيات والعلوم العربية. فالغرب تعرَّف على الأرقام وبشكل خاص على رقم الصفر عن طريق الحضارة الإسلامية. وكان ذلك عن طريق ترجمة كتب الخوارزمي. ثم ترجموا أعمال ثابت بن قرة، وهو العالم العربي المختص بهندسة اقليديس وفيثاغورس وأرخميدس.
وكذلك ترجموا كتب علم الفلك والطب العربية. وأما في مجال علم البصريات فقد ترجموا أعمال العالم العربي الكبير الحسن بن الهيثم. وعرف الأوروبيون عندئذ مدى اتساع العلم العربي، وكيف أن الإسلام شجع على العلم والدراسات العقلية ودفع بالإنسان إلى تنمية مواهبه ومداركه. وأما فيما يخص التقنيات الزراعية فقد استفاد الأوروبيون من علوم العرب وخبرتهم في هذا المجال.
فقد تعلَّموا عنا فن القنوات المائية والنواعير وطواحين الماء وكيفية السيطرة على مياه الأنهار واستغلالها من أجل الزراعة. وهكذا تم تحديث الزراعة المتوسطية وكثرت حقول القمح والزيتون والكرمة. ونقلت زراعات جديدة من البلدان العربية إلى أوروبا كالنخيل، والبرتقال، والمشمش، الخ... وتحولت إسبانيا إلى عروس أوروبا وازدهرت كل الازدهار بسبب الاستفادة من مناهج العرب وعلومهم وتقنياتهم. ثم انتقلت هذه المناهج والتقنيات العقلانية من خلال اسبانيا إلى مختلف بلدان أوروبا.
والواقع أن الإسلام كدين عقلاني يدعو الإنسان إلى تنمية مداركه ومواهبه هو الذي دفع إلى كل هذا الازدهار الحضاري. فالفلسفة العربية-الإسلامية التي توفِّق بين العلم والإيمان أو بين العقل والنقل أو بين الدنيا والآخرة استطاعت أن تحتضن واحدة من أجمل الحضارات التي عرفها التاريخ البشري. فالإنسان في الحضارة الإسلامية ليس مادة فقط ولا روحاً فقط، وإنما هو مادة وروح في آن معاً. من هنا الطابع الوسطي أو الاعتدالي للحضارة الإسلامية التي تكره الشطط والتطرف في أي اتجاه كان.
وهذا يعني أن حركات الغلو والعنف السائدة حالياً هي خارجة على الإسلام. هكذا انتقل فكر ابن رشد، والفارابي، وابن سينا، والغزالي وغيرهم إلى اللغة اللاتينية التي كانت لغة العلم والجامعات في كل أنحاء أوروبا آنذاك.
ومن المعلوم أن فلسفتنا هي فلسفة وسطية توفق بين العقل والإيمان ولا ترفض أحدهما بحجة التمسك بالآخر. وقد استفاد فيلسوف المسيحية الأوروبية آنذاك توما الأكويني من فلسفتنا واستخدمها لكي يبلور عقيدة جديدة للمسيحيين توفق بين العلم والإيمان أيضاً.
وسيطرت هذه العقيدة التومائية على الجامعات الأوروبية طيلة العصور الوسطى. بل ولا تزال تشكل أحد تيارات الفكر الأوروبي حتى هذه اللحظة.هكذا كان المسلمون انذاك أناسا ينقلون الحضارة والمنفعة الى الآخرين لا العنف والتفجيرات والتعصب الأعمى والدمار.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
اذا جمعتنا ياجرير المجامع
كاتب سوري ــ باريس