المجتمع الخليجي تعرض لتغيرات اقتصادية حلت على شكل طفرات اقتصادية تشكلت من خلالها بيئة اجتماعية ذات طابع اقتصادي ومجتمع استهلاكي غير مكتمل العناصر، في المقابل ظلت الهوية الخليجية مرتبكة في كيفية تقييم الوضع الاقتصادي الذي حل بها في مقابل علاقته بالمجتمع وتكوينه القيمي.
الطفرة الاقتصادية والثروة كلها جوانب ايجابية ساهمت وبشكل فعال في تغيير الصورة الخارجية للمجتمع الخليجي الذي تفاوتت فيه حدة التأثر بالطفرة الاقتصادية ولكن الجوانب السلبية من هذا التغير لم تكن غائبة. الطفرة الاقتصادية التي أحدثت مفهوم الثروة الخليجية لم تكن في كل الدول الخليجية فقد تركزت في دول اتضح أنها تستجيب لتلك الثروات ببناء اجتماعي اخترقته القيم الاقتصادية الحديثة بمفاهيم لم يكن استيعابها متدرجا مما احدث خللا كبيرا في المفهوم والبناء الاجتماعي.
ولكي تكون الصورة واضحة هنا أشير إلى قضية التركيبة السكانية غير المتعادلة والتي تعاني منها دول الخليج الأكثر تأثرا بالطفرة، العمالة الوافدة في الخليج تشكل تهديدا مستقبليا للتركيبة السكانية وهذا يحدث بشكل تلقائي نتيجة الاستجابة لمقومات الطفرة والنمو الاقتصادي.
الخلل السكاني لم يكن الوحيد أيضاً في التأثيرات التي تركتها أو سوف تتركها الثروة فهناك الخلل القيمي والعادات والتقاليد بالإضافة إلى اختلال في منظومة العلاقات الاجتماعية، المجتمع في الدول الخليجية وخاصة على المستوى الأسري وجد نفسه ومع التطورات الاقتصادية يفقد الكثير من المقومات البنائية التي كانت سائدة .
وهذا يفسره الحنين إلى الماضي ليس بالمنظور المرتبط بالمحافظة على التاريخ الاجتماعي وإثباته ولكن الحنين إلى الماضي في المجتمعات الخليجية مرتبط بفكرة الفقدان أي السرعة التي تم فيها فصل المجتمع عن ماضيه بفعل التغيرات الاقتصادية التي عملت بطريقة تمت فيها إزالة للكثير من القيم الاجتماعية.
ولإيضاح الواقع في هذا الجانب لابد من الإشارة إلى أن مظاهر إعادة الماضي في طريقة المسكن والملبس بعد تغليفها بغطاء اقتصادي سميك يعطيها بريقا مختلفا، كل هذه المظاهر تعبر عن نمطية الفقدان الاجتماعي والتي يعاني منها المجتمع الخليجي، إن بناء الخيام بطرق مكيفة والاستمتاع بها وكذلك بناء المساكن على نمطية المنازل القديمة وتطويرها بالتكييف والتقنية الحديثة إنما هو تعبير عن حجم الهوة الثقافية التي تعيشها تلك المجتمعات الخليجية وعن أحاسيس مدفونة تحن إلى الماضي ليس بطريقة تاريخية إنما بطريقة اجتماعية بحتة.
فالفرق بين الحنين بطريقة تاريخية والفقدان الاجتماعي أن الأولى هي تأكيد للماضي وربطه بالحاضر مع تفاعل مكتمل مع حاضر الإنسان وواقعه الاقتصادي مثلما يحدث في الدول المتحضرة من التنقل بين المراحل الاجتماعية بطرق تدريجية، الفقدان الاجتماعي هو تعبير عن قوة اقتصادية انتزعت الإنسان من ماضيه قسرا ليس بفعل مرور الزمن ولكن لأن الحالة الاقتصادية هي التي فرضت ذلك الواقع.
المجتمع الخليجي ككيان سوف يتعرض إلى مزيد من الفصل وتنامي الهوة الثقافية بين المحسوس والمادي وخاصة مع مؤشرات طفرة اقتصادية قادمة، اخطر ما سوف يواجه الناس في المجتمعات الخليجية ألا يشترك الجميع أو معظمهم في قيم اجتماعية مشتركة وهو ما يعبر عنه علم الاجتماع بالاجتماع الأخلاقي، هناك مؤشرات واضحة على بروز هذا النمط ولولا تماسك القيم الدينية لبات واضحا تفاوت الناس في المجتمعات الخليجية خصوصا في الاشتراك بقيم متشابهه.
يعتقد (دوركايم) وهو عالم اجتماع «بأن الدين يؤكد تمسك الناس بالقيم الاجتماعية الجوهرية، ويسهم بالتالي في صيانة التماسك الاجتماعي».
هذا المفهوم الذي يعتقده دوركايم يجب أن يتعرض إلى نوع من المسألة في مجتمعاتنا فهل الدين في مجتمعاتنا نحن يسهم في صيانة التماسك الاجتماعي، ظاهرياً نعم تبدو مؤشرات التدين في مجتمعاتنا واضحة فهناك المساجد والشعائر وهناك ممارسون لتلك الشعائر ولكن السؤال الحقيقي هو إلى أي مدى سوف تصمد هذه المظاهر في ظل تركيبة اقتصادية تسير بطريقة متسارعة يصعب على القيم والعادات والتقاليد الاجتماعية بجميع محتوياتها اللحاق بها؟
المجتمعات الخليجية يجب أن تعيد قراءة ذاتها من حيث علاقة الاقتصاد والطفرة والثروة بمكونها الاجتماعي فالجميع يفقد توازنه، الهيكل السكاني قد يتعرض للانهيار مع تزايد العمالة المنتشرة في طول الخليج وعرضه بل الأخطر أن معايير هذه العمالة من حيث المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي متدنية على المستويات الفردية فمعظم العمالة التي تملأ أسواق الخليج عمالة تعاني من ضعف في مستوياتها التربوية .
وهذا بالتأكيد له انعكاس على المستويات الاجتماعية. الهيكل القيمي يتعرض أيضاً لنفس الإشكالية فتحول المجتمعات الخليجية من نظام البيئات السكانية الاجتماعية المغلقة إلى بيئات مفتوحة تفقد فيها العلاقة الاجتماعية كل ذلك ساهم في عملية ضعف مراجعة القيم الاجتماعية وتطبيقها، بمعني آخر البيئات الاجتماعية المتماسكة سكانيا تختبر قيمها من خلال تفاعل أفرادها مع بعضهم بشكل دائم نتيجة عيشهم في محيط واحد، هذه القضية والتي تحولت فيها المجتمعات الخليجية إلى نظام السكن المفتوح نقلت مسؤولية مراقبة القيم والعادات الاجتماعية من المجتمع إلى الأسرة ثم إلى الفرد.
فبعد أن كان الفرد يسكن بيئة اجتماعية محصورة تقييم أفعاله ليس من أسرته ولكن من أفراد المجتمع أنفسهم، غابت مسؤولية اختبار القيم على المستوى الاجتماعي وحلت بدلا منها معايير على المستوى الأسري أو معايير على المستوى الفردي، وعندما وجد الفرد الخليجي نفسه متحررا من القيم الاجتماعية لم تكن لديه الثقافة المحصنة التي تساهم في إعادة التزامه بالقيم الاجتماعية وتوازنه معها كما لم تكن الأسرة مستعدة لأداء هذا الدور بسبب أنها أعطت المجتمع جزءا كبيرا من هذه المهمة.
المجتمعات الخليجية تعاني من هذا الانفصال الشديد ولذلك ولدت الأسر الخليجية وفي معظم الدول تقريبا وفق نمطين أساسيين الأول: الأسر والأفراد الذين أعلنوا انطلاقهم وتحررهم من القيم الاجتماعية بطريقة غير متوازنة .
حيث فقد الجميع موقعه على خريطة القيم والعادات والتقاليد، الثاني الأسر والأفراد الذين تخوفوا من التحرر فصاروا أكثر التزاما وتزمتا بالقيم والتقاليد الاجتماعية وخاصة التي كان مصدرها الدين وهذا ولد شكلا من أشكال الالتزام الديني لدى تلك الأسر سواء في الممارسة الدينية أو في تطبيق العادات والتقاليد، وهذا ما يفسر وجود أفراد أو اسر متدينة بدرجة كبيرة وغير محتملة في مقابل اسر تجاوزت الالتزام بالقيم.
إذا تذكرنا الماضي الاجتماعي للأسرة الخليجية وفي أي دولة منها نجد أن التفاوت في التزام القيم والمعايير غير موجود أساسا بل كان هناك توازن يمكن ملاحظته بطريقة سلسة، وبجانب الهيكل السكاني والهيكل القيمي وتأثرهما بالعلاقة الاقتصادية الاجتماعية هناك قضية أساسية أخرى تتمثل في النتائج المباشرة على الفرد فالثروة تخلق الكسل ووحدانية المصدر الاقتصادي تكرس الاعتمادية في الفرد الخليجي على الدولة وثرواتها لهذا السبب لابد من تذكر أن المنطق يقول إن هذه الثروات مهما استمرت فإنها سوف تنتهي يوما ما.
الدول والمجتمعات الخليجية مطالبة بأن تعيد بناء المجتمع الخليجي والخروج به من آثار الطفرة وتحويله إلى مجتمع منتج بجانب تخفيف الأعباء الاجتماعية عليه وخاصة الأعباء المرتبطة بالقيم والعادات والتقاليد والتي يتصارع في منطقتها كل من الدين والمجتمع بشكل مباشر والتي من آثارها البارزة التطرف والإرهاب، وسوف أناقش في مقالي الأسبوع القادم إن شاء الله هذه الفكرة وهل تكيفت القيم الدينية مع الطفرة الاقتصادية في المجتمعات الخليجية..؟.
كاتب سعودي