يبدو أن العلاقة المدنية العسكرية في تركيا مقبلة على تغير جذري، فعلى مدى التاريخ التركي الحديث.فمنذ انقلاب مصطفى كمال أتاتورك في العقد الثاني من القرن الماضي والكفة تميل بصورة واضحة لصالح الطرف العسكري.

ولكن في السنوات الأخيرة الماضية ومع بروز رغبة تركيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وما يتطلبه ذلك من التوافق مع معايير كوبنهاجن، بدأت تركيا في إحداث تغييرات في هذا الأمر من اجل إعادة التوازن إلى العلاقة بين الطرفين لتصبح مثلها مثل الدول الأوروبية الديمقراطية الأخرى.

ولكن التطورات التي حدثت مؤخرا تشير إلى أن الأجواء أصبحت مهيأة للإسراع بخطوات إعادة التوازن المدني العسكري، ولكن وقبل تناول هذه التطورات لابد من الإشارة إلى نقطة جوهرية في هذا الأمر وهى علاقة حزب العدالة والتنمية بهذا الأمر، ذلك ان العديد من المراقبين يربط بين خطوات إعادة التوازن إلى العلاقات المدنية العسكرية التي تمت وتتم في تركيا وبين وجود الحزب في السلطة.

وبالطبع فان شعبية الحزب الكبيرة والتفويض الكبير الذي حصل عليه من الشعب التركي في كافة الاستحقاقات الانتخابية، أعطى للحزب القوة التي مكنته من اتخاذ بعض الإجراءات الخاصة بهذا الأمر، ولكن المؤكد هو أن سعي تركيا إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والتوافق مع معايير كوبنهاجن هي السبب الأساسي في هذه الخطوات، وكانت أي حكومة تركية سوف تتخذها من هذا المنطلق، خاصة وان هناك توافقا بين النخبة التركية بجناحيها المدني والعسكري حول هذا الأمر.

والذي يكشف عن إعادة العلاقة بين الطرفين إلى حالة التوازن هو التطورات التي تشهدها تركيا حاليا فيما يتعلق بالمحاكمة التي تجرى بلدة سيليفري بتركيا لـ 56 شخصا ـ من بينهم جنرالان ـ متهمين بالتآمر لإسقاط حكومة حزب العدالة والتنمية ذي الجذور الإسلامية، والذي يؤكد أن هذه المحاكمة تمثل تطورا مهما على هذا الصعيد هو موقف المؤسسة العسكرية منها.

حيث رأى مراقبون أن الجيش لن يتقبل بسهولة محاكمة أعضاء بارزين به بصورة علنية ومن قبل محاكمة مدنية ن ولكن جاءت مواقف قياداته معاكسة تماما لهذه التوقعات فيما مثل نقلة نوعية في العلاقات المدنية العسكرية في تركيا.

والتطور الثاني يتعلق بالمحاولات التي تجرى حاليا من اجل إجراء تعديلات دستورية تسمح بمحاكمة قادة آخر انقلاب عسكري تركي وهو الذي حدث عام 1980، الأمر الذي دعا قائد الانقلاب الجنرال كنعان افرين إلى إعلان عزمه الانتحار في حال تمرير هذا التعديل الذي يفتح الباب امام محاكمته.

والمعروف، حسبما يقول يوسف الشريف احد ابرز المتخصصين العرب في الشأن التركي، أن الجيش التركي نفذ ثلاثة انقلابات عسكرية في تاريخ الجمهورية ونصب نفسه حارساً لتعاليم مصطفى أتاتورك ومبادئ الجمهورية العلمانية، وخط الدساتير والقوانين بعد كل انقلاب، فنأى بنفسه عن وزارة الدفاع وأصبح مؤسسة مستقلة تابعة لرئاسة الوزراء مباشرة بعد انقلاب عام 1960، ثم وضع دستور عام 1982 الذي لا يزال سارياً حتى اليوم مع بعض التعديلات، ومنح نفسه حق التدخل في السياسة وحق تدبير الانقلابات العسكرية كما هو منصوص عليه في المادة 35 من القانون الذي يعرّف دور المؤسسة العسكرية دستورياً.

وفيما كانت تفاصيل الموازنة العسكرية من أسرار الجيش إلى ما قبل ثلاث سنوات، سمحت المؤسسة العسكرية لنفسها بالدخول في مشروعات اقتصادية توفر للمنتسبين إليها عوائد مالية إضافية، مثل مؤسسة اوياك العملاقة التي تضم تحت جناحيها مصرفاً وشركات مقاولات ومصانع.

وحسب نفس المصدر فان الجيش التركي يشكل مؤسسة إيديولوجية مستقلة يصعب اختراقها. فالامتحانات العسكرية للانتساب إلى الجيش تتبعها مقابلات شخصية، وغالباً ما تحول ميول المرشح السياسية دون دخوله الجيش إلا إذا كان اتاتوركيا علمانيا بالمطلق.

وتعد الاستخبارات العسكرية سنوياً تقارير حول من يعتقد بأن لهم ميولاً إسلامية أو يسارية اثر مراقبة مشددة للمجندين والضباط ومتابعة من يزورهم والقنوات التلفزيونية التي يشاهدونها والصحف التي يقرأونها وعما إذا كانت بين أفراد عائلاتهم نساء محجبات. وتعمل قيادة الأركان على تسريح هؤلاء من دون أن يكون لهم حق الاعتراض أو اللجوء إلى القضاء.

وهذه المعطيات تؤكد أن تذويب المؤسسة العسكرية في المجتمع هو أمر من الصعوبة بمكان، وان اختراقها من قبل الحكومة، خاصة العدالة والتنمية هو أيضا من الصعوبة بمكان، وبالتالي فان التوازن الذي يمكن أن يحدث في العلاقة بين الطرفين يكون عبر التوصل إلى صيغة تضمن ألا يتدخل كل طرف في شؤون الطرف الآخر، مع نظام ما للتواصل والتنسيق بينهما في القضايا المشتركة مثل العلاقة بين الحكومة المدنية والجيش وغيرها من القضايا.

ذلك أن تغّول أي طرف على الآخر يمكن أن يعيد الخلل مرة أخرى ن خاصة وان لدى كل طرف أجنحة متشددة ترفض الدرجة العالية من التوازن المتحققة حاليا وتسعى إلى تحقيق صيغة بعيدة من المنطقة الوسط التي تحقق التوازن.

فلدى المؤسسة العسكرية من يرفض خروج الجيش من العملية السياسية وإنهاء سيطرته عليها ويسعى إلى العودة مرة أخرى للتدخل بقوة في شؤون السياسة والمجتمع، ولدى النخبة المدنية، خاصة حزب العدالة والتنمية من يريد أبعاد العسكر نهائيا عن السياسة بل وتهميشه داخل المجتمع، وكلا الأمرين من الصعب تحقيقه، ذلك أن الصراع في تركيا ليس صراعا صفريا وإنما صراع لابد وأن يحقق فيه كل طرف بعض المكاسب، ولا يخسر الطرف الآخر كل شيء، ولو أدرك الطرفين هذا الأمر لأصبحت في تركيا صيغة راقية ومتوازنة للعلاقة المدنية العسكرية.

كاتب مصري

ksrgany@hotmail.com