أن تضيع في مدينة حديثة ولا تجد مكتبة، أن تجد مكتبة ولا تجد الكتاب المناسب، أن تجد الكتاب الجيد بلغة أجنبية، حين يختفي القراء والكتّاب بين كتبهم التي لا يقرؤها غيرهم.. عندما تنعدم ثقافة تسويق الكتاب العربي بصفة عامة والمحلي بصفة خاصة بين الناشر والكاتب، أن تضيع العقود القانونية التي تحوي معايير وبنوداً بين الطرفين توضح مسؤولية كليهما، وتنظم آلية تسويق الكاتب والكتاب.. أن يجتمع كل ذلك في مكان واحد وفي نفس الوقت، فهذا يعني أن الثقافة باتت في مهبّ الريح.

وفي خضمّ تلك الرياح العاتية التي يبدو أنها لا تعصف إلا بالثقافة العربية، نجد صناعة النشر التي يشكّل أعمدتها الناشر والمؤلّف والكتاب والمدقق والرسام وجميع العناصر الأخرى، تزدهر يوماً بعد آخر في المجتمعات الغربية، التي تعتبر فيها تلك الصناعة جزءاً أساسياً من ثقافة المجتمع ككل.

لهذا نجد أن الإجراءات التجارية ما بين المؤلف والناشر في الدول المتقدمة، تتم عبر الوكيل الأدبي الذي يكاد ينعدم وجوده في الوطن العربي، فالمؤلف المحلي والعربي عليه أن يتعامل مباشرة مع الناشر في عملية لا تخلو من ضياع بعض الحقوق بالنسبة للطرفين، ليدفع ثمنها الكتاب قبل كل شيء.

حيث يولد الكتاب العربي ـ غالباً ـ يتيما ضائعاً على أرفف المكتبات، فتجده في مكتبة ولا تجده في أخرى، ويقتصر وجوده في أحيانٍ كثيرة على معارض الكتب، إذا لم تنتشله لائحة الرقابة التي تفوق سرعة نموّها سنوياً سرعة نمو الناتج المحلي في أي دولة عربية.

لهذا لا يزال الكتاب العربي ومؤلّفه يعانيان ويبحثان عن وطن في بلادنا العربية الواسعة، وإذا ما أراد أحد المحسنين أن يدعم كاتباً، فإن جلّ ما يقوم به هو تجهيز حفل توقيع للكتاب في أحد معارض الكتب السريعة.

عندما يختزل مفهوم الثقافة الشامل في مفاهيم جزئية، كاللوحات الفنيّة المعلقة في قاعات المعارض وأروقة المتاحف التي تعاني هي الأخرى في منطقتنا العربية، فإن ذلك يعني أن وعينا الثقافي ما زال يراوح بعيداً عن الحقيقة والواقع.

فنحن على الرغم من تقديرنا للفن الذي يعد نتاجاً إنسانياً راقياً، إلا أن حكر الثقافة على نشاطات وفعاليات متفرّقة وغير مدروسة، لا يخدم المشروع الثقافي المعرفي للمدن الحضارية، الذي إذا طبّق بالطريقة الصحيحة، فإنّه سيساهم لا محالة في التكوين الإنساني التنموي لأي مجتمع يرنو إلى خوض غمار العالمية ومخر عباب الحضارة.

لماذا تكون الثقافة هي العنصر الأكثر بروزاً في المدن العالمية، التي مهما علا نجم الاقتصاد أو السياسة فيها فإنهما لا يستطيعان سلب الثقافة بريقها الإنساني المنير؟

فالثقافة بكل تعريفاتها، تبقى هي القالب الذي يشكّل كل العناصر الإنسانية والعمرانية الأخرى في أي مدينة، وتظل هي العنصر الأكثر جذباً للناس حتى وإن لم ينلهم نصيب من ثقافة أو علم.

«أحيانا يجب إرجاع الثقة للمدن»، هكذا يقول أهالي مدينة غلاسكو الاسكتلندية التي تحولت من مدينة صناعية ذات ملامح ثقافية، إلي قبلة للثقافة والسياحية الجميلة باقتدار عندما اختيرت عاصمة للثقافة الأوروبية عام 1990، حيث ساعدت التنمية الثقافية وبشكل ملحوظ في جعل المدينة مركزا تجاريا ناجحا، وأصبحت بيئة جاذبة تتبوّأ مركزا متقدما بين المدن في أوروبا.

مما أعاد الثقة لسكّانها في مدينتهم وفي قدراتها، حتى في ظل الركود الاقتصادي الذي عصف ببريطانيا في التسعينات، وسرعان ما نهضت غلاسكو كمدينة تجارية ثقافية تحمل الإرث الاسكتلندي العريق إلى العالم أجمع، واليوم تصنّف غلاسكو كثالث مدينة سياحية في المملكة المتحدة.

التحدي الأكبر الذي يواجه غالبية مدننا العربية، هو إغفال دور الثقافة في عملية التنمية المستدامة، وفي هذا يقول مدير اليونسكو متأسفا: «باتت الثقافة هي المنسي الأكبر بين الأهداف الإنمائية للألفية»، فما زلنا نعاني من الاستخدام الخاطئ لمفهوم الثقافة وحكرها على فعاليات شكلية تنتهي بانتهاء الحدث نفسه، ليبقى الاستثمار الثقافي الحقيقي، وهو تنمية طاقات إنسانية جديدة، طي النسيان.

وفي ظل مشكلة الهوية التي يعاني منها كثير من المجتمعات الخليجية، تبرز الحاجة إلى فهم أعمق للعلاقة بين الثقافة بتعريفها الشامل وبين الهوية، حيث أن الاستثمار الثقافي في الإنسان يساعد بصورة فعالة في حل المشاكل المتعلقة بالهوية.

ما زلنا نراهن على أن الثقافة سوف تجمعنا، فهي أفضل الحلول المتوفرة للتواصل والتقارب الحضاري بين البشر. وبحسب عدة دراسات سابقة للأمم المتحدة واليونسكو، تبيّن أن الثقافة تمثل ركيزة أساسية ضمن ركائز التنمية المعرفية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية لأي دولة.

من هنا يأتي دور المدن الحديثة في تطبيق هذا المفهوم بنطاق واسع، وجعل الثقافة جزءاً من المجتمع ككل، وطريقة للحياة فيها، وعدم حكرها على أماكن وأشخاص معيّنين. فالثقافة للجميع كما أن التعليم للجميع، إلا أننا نعاني من نخبوية الثقافة في الوطن العربي.

إن العبء الأكبر في عملية تفعيل دور الثقافة في المجتمع يقع على عاتق أصحاب القرار في القطاعات الثقافية، ولإيجاد حراك ثقافي تنموي حقيقي، فإنه على المسؤولين حمل راية الثقافة بجدية أو التخلي عن أماكنهم، فمدننا العربية تحمل إرثاً ثقافياً عظيماً ولكنه مهمل ومغيّب تحت وطأة حياة مادية لا ترحم، تتحرك بوتيرة سريعة، تفقدنا جمالية الأشياء من حولنا، وتختصر حياة المجتمع في تجربة العمل اليومي المنهك، فنضيع كالسنين.

كاتب إماراتي

jamal.alshehhi@gmail.com