لا شيء في الدنيا يفوق إزهاق روح إنسان من دون حق، فقد كرمه الله سبحانه وتعالى أحسن تكريم، إلا أن الجريمة وجدت منذ بدء الخليقة عندما قتل قابيل أخاه هابيل، وكرت السلسلة في كل العصور وتنوعت الجرائم باختلاف أسبابها وغاياتها.
لكن المهم في الموضوع هو ما تقوم به مؤسسات الأمن والشرطة والقوانين، للحد من وقوع الجريمة والعمل على سوق الجناة إلى القضاء ومحاسبتهم؟ وهذا هو بالضبط ما استقرت عليه مهام وواجبات الشرطة في كل العالم.
وفي الأيام الماضية، قدمت إلى دبي عناصر مأجورة وعلى درجة عالية من القدرات الإجرامية، ومدربة على فنون القتل بدم بارد، بهدف اغتيال شخصية فلسطينية مهمة، وهي المرحوم محمود المبحوح، وأثارت الجريمة اهتماماً عالمياً وردود أفعال كبيرة، سيما وأن الهدف المغدور كان ذا حساسية، والمكان مدينة دبي.
وأصابع الاتهام تؤشر إلى أن عصابة نفذت العملية لصالح جهاز «الموساد» الإسرائيلي المستفيد الأول من الجريمة.وهنا تكون أمام أجهزة التحقيق معضلة كيفية تمييز الداخلين إلى مدينة عالمية وسياحية مثل دبي، يفد إليها كل عام ملايين من البشر ينتمون إلى أكثر من مئتي جنسية!
وقد رتب الجناة الدخول في أوقات متباينة، وهم يحملون جوازات سفر أوروبية حقيقية، لا تستلزم تأشيرة مسبقة، وحتى لو افترضنا ان هناك شرطاً للحصول على تأشيرة مسبقة، فهذا لا يحول دون دخول أفراد العصابة المعززة بدعم لوجستي متطور.
من جهاز استخباري له ماض مشهود في استخدام فرق القتل، والخبرة في التمويه والرصد ومتابعة الهدف، والاستعانة بتقنيات اتصال عالية الجودة، تقع خارج سيطرة المنظومة الوطنية للاتصالات الهاتفية، بهدف تحييد الرقابة الأمنية الشرعية على الأهداف المشبوهة.
كل ذلك ساعدهم على النجاح في مهمتهم من الناحية التكتيكية، ومغادرة مسرح الجريمة على عجل، إلا أن العمل المضني الذي قامت به شرطة دبي وأجهزتها المتخصصة، كشف للعالم عن مهارة فائقة في تشخيص هويات أعضاء فرقة الاغتيال.
التي توزعت عناصرها على عدة جنسيات وسكنوا أمكنة مختلفة، وقاموا بجهد غير عادي في تغيير ملابسهم وأشكالهم، بل إنهم حتى لم يستخدموا سلاحاً نارياً أو بطاقات ائتمان في مهمتهم، وتحقق لهم اختراق في الدائرة القريبة من الهدف، مكنهم من معرفة خط حركته ومواعيد سفره، وتأمين عنصر بشري قريب من المغدور لغرض تحديد شخصيته.
فنحن هنا أمام عمل قامت به عناصر عالية التدريب، تسندها أجهزة مخابراتية محترفة، وكل ذلك يصعب من مهمة أي شرطة في الوصول إليهم.لكن شرطة دبي توصلت إلى معرفة الجناة في فترة قياسية، مستفيدين من تقنيات تكنولوجية متطورة في عملهم، أذهلت المراقبين والمحللين في كل أجهزة ومراكز الاستخبارات في العالم.
فضلاً عن الرأي العام العالمي، عندما تمكنت دبي من تقديم شريط فيديو حقيقي يوثق تحركات أعضاء فريق الاغتيال ال11، من لحظة دخولهم إلى مطار دبي، ورصدت تحركاتهم في الفنادق وسيارات الأجرة والمراكز التجارية، وصورت كل شيء عنهم حتى لحظة تغيير ملابسهم، وكل هذا العمل لم يقم به مصور واحد بكاميرا واحدة.
إنما عصارة لجهد احترافي لضباط شرطة أكفاء نالوا إعجاب العالم، لأن الدقائق التي شاهدها الناس هي نتاج جهد وسهر وعين متفحصة وذكاء وتدريب عال، استطاع أن ينتزع هذه الصور من مئات الآلاف من ساعات التصوير، لمئات الكاميرات المنتشرة في مطار يعج بملايين المسافرين، ومدينة لا تنام تضج حركة وصخباً، بزوارها الذين يقصدونها من كل أرجاء المعمورة.
ورب قائل إن النجاح المبهر الذي أنجزته شرطة دبي قائداً وضباطاً وأفراداً، كان سيكون مدهشاً لو تمكنت من إلقاء القبض عليهم في المطار أو الفندق مثلاً، إلا أن المنطق يقول إنه لا يمكن لجهاز أو أفراد مهما كانت قدراتهم، أن يمنعوا أشخاصاً لا يبدو عليهم ما يميزهم عن غيرهم، من أن يتسللوا إلى غرفة في فندق كبير ويخنقوا ضحية يطاردونها منذ سنوات.
وكما يعرف المتابعون، فقد جرت عمليات عديدة وقريبة من مضمون ما حصل في باريس ولندن وعواصم أوروبية أخرى عديدة. ففي مطلع الثمانينات من القرن المنصرم جرى اغتيال علماء ذرة عراقيين وعرب في فنادق شهيرة، ولحد الآن لم يسمع أحد عن هوية القاتل.
فقط شرطة دبي وضعت القتلة ومن يقف وراءهم على خارطة العالم، بأسمائهم وصورهم وحركاتهم وأنفاسهم، وأرسلت رسالة قصيرة إلى كل من يعنيهم الأمر، بأننا نحن الأكفأ والأقدر، والمجرم مهما تفنن في وسائله لا بد وان يظهر بعد وقت بلحمه وشحمه على شاشات التلفاز واليوتيوب والانتربول.
ومهما طال الزمن أو قصر، سيقف القتلة أمام القضاء العادل هنا أو في مكان آخر كي يكون العالم رقيباً، والجريمة مرفوضة، وتبقى دبي مكاناً آمناً للأعمال والنزهة والتسوق.
ويبقى لوم يقع على الراحل المغدور محمود المبحوح والجهة التي ينتمي إليها، وهو بهذه الأهمية لماذا يبخس نفسه بعدم إعلام السلطات في الإمارات عن قدومه، ومن المؤكد أن الإمارات العربية دولة متحضرة ومسؤولة ومضيافة.
وستقوم بواجباتها لو تم إبلاغها! لقد كان قائد شرطة دبي الفريق ضاحي خلفان محقاً عندما قال إن «من يأتي إلينا من خلف ظهورنا فليحمِ ظهره».
فتحية إعجاب وفخر وتقدير لشرطة دبي، التي أثبتت وبحق أنها شرطة محترفة ومقتدرة وماهرة.
كاتب عراقي