قبل أكثر من عام أطل بعنقه على العالم شبح ما سمي «أزمة تناقص الغذاء العالمي»، والتي أسهمت في ارتفاع أسعار سلع غذائية استراتيجية وذات صفة حيوية بالنسبة للمستهلكين؛ مثل الأرز والدقيق والبقوليات، بل حتى السكر، وغيرها الكثير من السلع، ما أثار هلعاً كبيراً لدى الحكومات والمنظمات الدولية المتخصصة؛ مثل منظمة الزراعة والغذاء العالمية (الفاو)، وصندوق الغذاء العالمي، حتى وصل الأمر بدول معروفة بإنتاجها لمادة الأرز أن أوقفت تصديره إلى عالمنا العربي، بسبب الحاجة الاستهلاكية الداخلية الماسة إليه.
ما خلق لدى الكثيرين حالة من الفزع والانتباه الشديد إلى ضرورة إيلاء عناية تامة إلى موضوع الأمن الغذائي، وهو بلا شك يشكل عنصراً حيوياً من عناصر منظومة الأمن القومي للبلدان، مثلما تمت الإشارة إليه بشكل مقلق لدى مراكز الأبحاث والدراسات المتخصصة، والتي وصفت القرن الحالي بأنه سوف يشهد لأول مرة صراعات حادة، يمكن تسميتها بـ «حروب الغذاء» أو «ثورات الجياع»، لكن عودة أسعار برميل النفط إلى معدلاته المقبولة.
ونتائج آثار الأزمة المالية العالمية على الأسواق قد أسهما في تلاشي حجم القلق والهلع العالميين، حتى خفتت الأصوات المطالبة بمزيد من الاهتمام بقضية الغذاء ومستقبل الأمن الغذائي في العالم. في وقت تشير دراسات وأبحاث عدة إلى أن أزمة الغذاء من الممكن أن تطل علينا من جديد، وفي أي وقت، طالما أن الدراسات تؤكد على المعطيات التالية:
أولا: تزايد مساحات التصحر والزحف الصحراوي على المساحات الخضراء في أغلب بلدان العالم، وترافق ذلك مع ارتفاع الشكاوى من نقص حاد في معدلات المياه الصالحة للزراعة، ناهيك عن تطورات التغيرات المناخية المحرجة، وما يرتبط بها من علامات على تغير اتجاهات الرياح وتبدل الأنواء الجوية وتراجع كميات الأمطار في بلدان معروفة بمناخات مطرية، أو سقوطها في أوقات غير ملائمة لمواسم الاستزراع، وتكون السيول الجارفة، وانهيار السدود المقامة أو عدم كفاءتها.
كل ذلك يلحق أضراراً بالزراعة، كما حصل في المغرب، وما يحصل حالياً في العراق؛ البلد الذي كان يزهو بنهري دجلة والفرات، حيث يشهد هجرة غير مسبوقة في التاريخ من الريف إلى المدن، لتزاحم معدلات البطالة المتفشية أصلاً في المدن، إضافة إلى رحيل قرى وتدمير مساحات واسعة، وما يصاحب ذلك من نشوء نزاعات عشائرية وقبلية على المياه الشحيحة.
ثانيا: ندرة الموارد الطبيعية، وتزايد الطلب على الأرض، مع محدودية كميات المياه، وتزايد حجم الطلب على الأرض والمياه بسبب الزيادة السريعة في معدلات النمو السكاني، ما يثير الانتباه إلى موضوع الأمن الغذائي الذي يعني كمفهوم أنك تستطيع الوصول إلى الغذاء المتاح بسعر في متناول الجميع. أما تحقيق ما يدعى بـ «الاكتفاء الذاتي» فهو يعنى أنك تنتج كل ما تحتاج إليه من الغذاء.
ثالثا: لابد من الملاحظة، وبحسب إحصاءات البنك الدولي، أن أكثر الفقراء في العالم يوجدون في قارة إفريقيا والشرق الأوسط، ما يدفع الحكومات في هذه البلدان إلى انتهاج خطط وبرامج فعالة، تهدف إلى إقامة قطاع زراعي متطور عبر ضخ المزيد من الاستثمارات التي يمكن أن تساعد الأفراد على القيام بفعاليات إنتاجية أخرى، إلى جانب الزراعة، حتى تتحسن مستويات الصحة والمعيشة للسكان بشكل متوازن في الريف.
رابعا: إن مصدر القلق الرئيسي الذي يستلزم التعاطي معه هو في كيفية التعامل مع التقلبات السريعة في أسعار المواد الغذائية في الأسواق العالمية. ويحتاج هذا الأمر إلى مزيد من المرونة في السياسات المتبعة، وبطرق مبتكرة في إدارة مخازن الغذاء، للحد من الآثار السلبية والصدمات المحتملة في الأسعار.
وهنا لا بد من السعي الجاد إلى تحقيق تنسيق وتكامل في عملية تضافر خطط وجهود المؤسسات الحكومية الموكل إليها تنفيذ برامج الزراعة والري، من أجل تعظيم معدلات الإنتاجية للغلة الزراعية والمحاصيل لكل قطرة مياه، والالتفات بشكل جاد إلى رسم خطط ديناميكية علمية في التعاطي مع القضايا المترتبة على تغيرات المناخ، وهذا من شأنه أن يزيد الرقعة الزراعية في الريف، ويحسن من كفاءة الأمن الغذائي، والاستفادة القصوى من المياه، والتي صارت أسرع الموارد نضوباً في الطبيعة.
ومن المجدي العمل على إدارة هذه الموارد بطرق فعالة وحيوية في المستقبل، لأن أزمة الغذاء تبقى خطراً يدهم الدول في أي وقت من دون اتباع استراتيجيات حقيقية تتعلق بكيفية إدارة الاستثمارات، والموارد المائية والتعامل مع الأرض الزراعية وكأنها جزء حيوي من مكونات الأمن الغذائي للبلدان.
هذه البلدان منوط بها العمل وفقاً لرؤية بعيدة تستشرف المستقبل بما يتلاءم وعناصر القوة المتاحة، ومعرفة حجم الموارد المائية بشكل دقيق، سواء كان ذلك حجم المياه تحت الأرض أو الأنهر والمسطحات المائية، إضافة إلى أهمية العناية بالسدود والحد من التبخر، كل ذلك ينبغي أن يرتبط بمنهج متكامل لتعظيم الاستفادة الكلية من الموارد والاستثمارات.
كاتب عراقي