إن الحديث عن موضوعة الديمقراطية وما له ارتباط بها من مفاهيم لحقوق الإنسان هي غاية من غايات السياسة الخارجية لأية دولة في العالم هو كلام من الناحية الواقعية يعبر عن نزعة مثالية في تقييم الأشياء فالديمقراطية وحقوق الإنسان يعبران في النهاية عن قيم محددة ومبادئ عامة قد لا تكون مادية محسوسة تحسب وفق معايير الربح والخسارة والمصالح.

وعندما نتفحص ونستعيد بعضا من تاريخ الفكر الإنساني كله عبر التاريخ والعصور سنجد انه رغم ثرائه وتنوعه إلا انه دائما محكوما بمسارين رئيسين احدهما واقعي يتعامل مع الأوضاع القائمة .

كما هي وتتحكم به اعتبارات المصلحة وتوازنات القوى الأساسية المتواجدة على ارض الواقع تتطور وترتبط معه بحسب الأحوال أما المسار الثاني فهو مثالي يسعى لتطوير أو تغيير الواقع وفق نموذج قيمي مثالي.

ولكن ومع تطور العلاقات الدولية بات واضحا ان عملية الفصل بين المسارين غير قائم على ارض الواقع إذ أن هناك تداخلا وتشابكا فيما بينهما فالسعي إلى نشر قيم معينة لا يعني بالضرورة انه لا يحقق مصالح مادية للدولة فعلى سبيل المثال كان الاتحاد السوفييتي السابق كقوة عظمى منافسة للولايات المتحدة الأميركية في عصر القطبية الثنائية يبني علاقاته الدولية على أسس ايديولوجية معروفة إلا انه قد اكتسب عبرها حجم كبير من النفوذ والقوة والعكس صحيح فالولايات المتحدة في مواجهتها مع الاتحاد السوفيتي سعت لتحقيق السيطرة والهيمنة .

ورفعت شعار الدفاع عن العالم الحر عندما واجهت الستار الحديدي أو ما أطلقت عليه ائنذاك العالم المنغلق بمعنى انها أيضاً عملت على تعزيز نفوذها السياسي من خلال تأكيد قيم معينة.

وإذا كانت أميركا صاحبة تمثال الحرية الشهير ترفع الآن شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب كواحد من أهداف سياستها الخارجية فهل نحن حقا أمام نزعة مثالية أميركية بالفعل؟

بعد الحرب العالمية الأولى أعاد الرئيس ويلسون تشكيل السياسة الخارجية على أساس القيم أكثر من المصالح وهو ما عبر عنه بقوله (لا يمكن الحفاظ على السلام إلا في إطار علاقات المشاركة بين النظم الديمقراطية) فالديمقراطية من هذا المنظور تحد من تصاعد حجم الصراعات الدولية والنزاعات الإقليمية.

ولكن في المقابل ظل أنصار الواقعية لهم أسبابهم القوية وحججهم التي عززها تصاعد الحرب الباردة منذ الخمسينات وتصويرهم للصراع مع الاتحاد السوفيتي السابق وكتلته الشيوعية باعتباره قضية حياة أو موت مثلما يصور صانع السياسة الخارجية الحالية موضوع مقارعة ما يدعونه بالإرهاب الدولي الأمر الذي لا يجدي معه التمسك بنزعات مثالية.

وهو ما ظهر بشكل جلي في كتابات منظري السياسة الأميركية في عصر المحافظين الجدد في فترة ولايتي الرئيس بوش مثل وولفولت وبيرل وغيرهم من خلال تصويرهم بان أميركا صارت قاب قوسين من الخطر القادم من الشرق وتحت هذه اللافتة الفضفاضة تم اجتياح بلدين مسلمين هما أفغانستان والعراق.

إضافة إلى تردد كبير في ممارسة الضغوط الجادة على حكومة العدو الصهيوني عبر السعي إلى إقرار الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني والعمل على السعي إلى بناء عالم خال من أسلحة الدمار الشامل والحفاظ على البيئة وغيرها من الميادين التي تتمكن من خلالها الولايات المتحدة من ممارسة دور حقيقي في ضبط وتخفيف حدة النزاعات في ساحات إقليمية ودولية عديدة.

وإذا كانت السنة الاولة من ولاية الرئيس الأميركي اوباما تشكل دفعا خجولا باتجاه إقرار نهج يتحلى بقدر من المثالية فانه بلا شك حتى اللحظة لم يقدم دليل عملي ملموس ان إدارته تعمل على خلق حالة من التوازن بين المُثل والمصالح وترسيخ استراتيجية أميركية جديدة مبنية على نظرة واقعية ومثالية في الوقت نفسه.

وما يلحظه المتابع لمجريات الفعل السياسي الأميركي في البيئة الدولية من محاولة إلى سحب إسرائيل إلى مفاوضات سلام مع الفلسطينيين وتمسك الإدارة الجديدة بسحب قواتها العسكرية من العراق بحلول العام القادم فان كل ذلك في واقع الحال يكرس فكرة التداخل بين النزعتين الواقعية والمثالية والتي تقوم لدى الأميركيين على أساس عملية المزج فيما بين المدرستين.

كاتب عراقي

al.dulaimi@hotmail.com