منذ فجر التاريخ، كانت ضفاف نهر الفرات (بالإضافة لضفاف نهر دجلة، وما بينهما) المهد الأساسي لابتكار الزراعة المروية قبل حوالي 12 ألف عام. كما مارست الشعوب المقيمة على ضفافه صيد الأسماك والنقل النهري والتجارة البينية، وتتابعت الأنشطة البشرية الاقتصادية وبنيت آلاف المدن والقرى عبر آلاف السنين على ضفافه، بعضها لايزال حيّاً إلى اليوم.
مؤخراً، تزايدت وتيرة استثمار مع بناء عشرات السدود وتأسيس المزارع الجماعية الواسعة على ضفافه. وفي مدينة الرمادي مركز محافظة الأنبار الواقعة قرب الحدود مع سوريا والأردن والمملكة العربية السعودية وهي أول مدينة كبيرة على نهر الفرات وإلى الجنوب منها تقع بحيرة الحبانية الكبيرة وفي الشمال منها سد الرمادي على الفرات الذي يروي مئات الآلاف من الهكتارات من الأراضي الزراعية المستصلحة. اكتسب العراق شهرته منذ القدم من نهريه العظيمين، دجلة والفرات.
بلاد ما بين النهرين، أو بلاد الماءين، مصطلحان كانا يرمزان للعراق من باب ثروته المائية البيضاء، وذلك قبل عهود من اكتشاف ثروته ـ النفطية السوداء. تغيّر كل شيء اليوم، وأصبح العراق عنواناً لعطَش أهله ولتصحّر أرضه وجفاف تربته وتلوّث ما نجا من مائه في مواجهة عجز الطبيعة وظلم الجيران وسلوك الإنسان. أرض الرافدين تشكو العطش.
حقيقة لا تحتمل اجتهاداً ولا رأيا. مياه دجلة والفرات وشط العرب آخذة بالانحسار، بسبب قلة الإطلاقات المائية من دول المنبع والمرور. مشكلة ليست وليدة اليوم ولا الأمس القريب، لكنّ الحلول تكاد تكون معدومة، بينما الواقع الزراعي في العراق يواصل انهياره بسبب عدم توافر إمكانية استغلال الموارد المائية المتاحة.
وخصوصاً عدم توافر الوقود للمضخات الزراعية، إضافة إلى الواقع المؤلم الذي يعيشه المزارعون، بين قتل وسجن وتهجير وفوضى أمنية وفساد مالي وإداري، وإلغاء الدعم الحكومي، بينما توقّف إنشاء السدود المحلية توقفاً كاملاً، رغم توافر المخصصات المالية لها.لكن في ظل الأوضاع الأمنية والاقتصادية غير المستقرة، فإن خطر أزمة المياه يصبح ماثلاً للعيان، ما يهدد بحصول كوارث إنسانية تطال المواطن العراقي وتهدد اقتصاد البلاد.
وبحسب مجلة «المياه» المتخصصة، فإن النزاع على مصادر المياه أصبح يمثّل فتيلاً يهدد بظهور صراعات محلية وإقليمية، ما يستدعي أن تأخذ المنطقة هذه المسألة بجدية، من خلال وجود تصور وبعد استراتيجيَّين، ووضع سياسات مائية موحَّدة لمواجهة تحدّيات الأمن المائي، فيما بدأت تركيا بإنشاء السدود، ولحقت بها سوريا وإيران، وبقي العراق بين متفرّج ومترقّب للكارثة.
وسبق أن وافق العراق في عام 1947 على عقد معاهدة صداقة وحسن جوار مع تركيا، أُلحقت بها ستة بروتوكولات تضمّنت تنظيم الانتفاع من مياه دجلة والفرات، وتفادي أضرار الفيضانات، وإقامة مشاريع للمحافظة على المياه، مع موافقة أنقرة على مبدأ ضرورة تزويد العراق بالمعلومات الخاصة بالمشاريع والأعمال التي تنوي القيام بتنفيذها، على نحو يوفّق بقدر الإمكان، بين مصالح البلدين.
إقامة سدود جديدة في تركيا وسوريا زاد من شحَّة المياه بالعراق مِمَّا يُقلل من كَمِّية المياه الدَّاخلة للعراق عبر مَجرى هذين النَّهرين، فدنت مناسيبُ المياه في نَهري دجلة والفُرات، اللَّذَين ينحدران من البلدين المجاورين بأكثر من 60% على مدى عشرين عامًا الماضية.
إذن أزمة مياه حادة ستبقي العراق أشبه بجسد عليل يعيش على قطرات من المغذي تبقيه على قيد الحياة دون عافية، وهو أمر خطير يتطلب تحركا عراقيا على أكثر من صعيد لتوفير المياه من أجل الحياة ومن أجل الانتاج الزراعي وتنمية المحاصيل الزراعية وبعكس ذلك سيكون المستقبل القريب لن يبشر بخير لمستقبل المياه في بلاد النهرين.
وسوف لن نرى لا ماءً ولا بساتين في أم البساتين.. كما قال عنها شاعرنا الكبير محمد مهدي الجواهري: يا دجلة الخير يا أمَّ البساتين،، حييتُ سفحَك ظمآناً ألوذ به لوذ الحمائِم بين الماءِ والطين..
كاتب عراقي