العرب والحداثة حسين العودات

العرب والحداثة

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم تستوطن الحداثة بشكل كامل وشامل في أي من البلدان العربية، وقد مرت رياحها هنا وهناك، فأثرت جزئياً وتركت شيئاً منها في هذا الجانب أو ذاك، في المجال الفكري أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي، ولكنها لم تترك نظاماً كاملاً يحتوي مجمل مفاهيمها أو نظمها، ومازالت معظم مفاهيم الحداثة تلاقي رفضاً في البلدان العربية وصداً.

ولعلها سوف تبقى تلاقي مثل هذا الرفض مدة طويلة قادمة، ليس بسبب تعنت العرب أو سوء تفكيرهم أو حتى بسبب أديانهم وتراثهم وتقاليدهم في معاداتها للحداثة والابتعاد عنها واعتبارها رجساً من عمل الشيطان، بل لأن الظروف الموضوعية والشروط التاريخية والإنسانية المفضية إلى الحداثة لم تتوفر في البلدان العربية.

ولذلك فشلت الحداثة في البلاد العربية ووقعت في أزمة، وأخذ العرب منها فقط بعض المفاهيم، وحتى هذه المفاهيم المتداولة عربياً لم تسبح في مياهها، ولم تنبت في تربتها، بل كانت إلى الاستيراد أقرب، وهم وإن تبنوا اسم المفهوم أو المكون الحداثي، فإنهم أفرغوه من محتواه.

وشوهوا هذا المحتوى، وطبقوه تطبيقاً أعرج، بحجة الخصوصية أحياناً والحفاظ على الهوية أحياناً أخرى، أو الزعم أنهم يحافظون على الدين والتراث والقيم والتقاليد وغير ذلك، كما كان شأنهم مع حركة النهضة العربية أو التنوير أو الإصلاح الديني أو مفاهيمهم الحرية والديموقراطية، أو التعددية وفصل السلطات وغيرها.

لقد أخذ بعض العرب بعضاً من مكونات الحداثة ومفاهيمها، دون منهجية، وبموقف غير شامل ولا جذري، وإنما بتحصيل حاصل فرضته احتياجات التطور، أو لأن ذلك يدعم الأنظمة السياسية والاجتماعية القائمة ويعلي من شأنها ويؤدي إلى تهافت مواقف معارضيها سواء للمزاودة عليهم أم لاتقاء معارضتهم ولغوهم.

وفي المحصلة بقيت المجتمعات العربية وأنظمتها السياسية وأفكارها ومواقفها بدون تحديث، وبدلاً من دأب الباحثين على استكناه الأسباب والعمل على مواجهتها، ودفع عملية الحداثة إلى الأمام، غرق بعض المثقفين العرب، وبعض تياراتهم الفكرية، بنقد الحداثة، واعتبروها اختراقاً ثقافياً أجنبياً، وغزواً للدين والقيم، وتدميراً للتراث.

ولذلك انصب الهم العربي على التحديث دون الحداثة، على استيراد المصنوعات والآلات والمواد الاستهلاكية، وتقليد أوروبا باللباس والعادات والتقاليد وأنماط الحياة، وتجاهل مفاهيم الحداثة الجوهرية وخاصة مفاهيم التنوير والعقلانية والفردية والديمقراطية وغيرها.

لقد طبقوا التحديث دون أن يعترفوا بالحداثة، وقبلوا منتجات التحديث كاملة وأداروا ظهورهم للحداثة التي أوصلت البشرية إلى هذه المنتجات، وهكذا صار العرب مع استيراد كل شيء مصنّع واستهلاكي وخدمي بدون تحفظ، في الوقت الذي يرفضون فيه غالباً تلك الأفكار والفلسفات والمفاهيم والمكونات التي تشكل مقدمات هذه الأشياء في الإطار التاريخي للتطور والتحديث.

لم تستطع الحداثة أن تجذّر وجودها وموقفها في البلدان العربية لأن هذه البلدان لم تمتلك الشروط المناسبة وبالتالي البيئة المناسبة لها كي تبقى وتعيش وتؤثر وتفعل في التطور، وبقيت هذه العلاقة خارج الحداثة وخارج الأحداث الكبرى طوال القرنين الماضيين.

ولعل النقص الرئيس في هذه الشروط هو عدم وجود (الطبقة) أو (الفئة) التي كان يجب أن تتولى مهمة حمل الحداثة ونشرها وترسيخها، أعني الطبقة الوسطى، التي قامت على أكتافها الحداثة الأوروبية.

وكانت حاملاً جدياً وكفوءاً، وتحالفت مع المفكرين والمثقفين أو تحالفوا معها لأداء هذه المهمة، وبدأوا تنفيذها في القرن السادس عشر واستمروا في ذلك حتى القرن الثامن عشر، قرن نضوج الحداثة في أوروبا.

ويشير الباحثون إلى أن (لاحداثة دون تبلور نخبة حداثية ونمط من التفكير العلمي ووجود قوى اجتماعية لها رغبة بالتحديث)، وكما أن النهضة العربية لم تجد لها حاملاً اجتماعياً اقتصادياً فكذلك لم تجد الحداثة مثل هذا الحامل، وكأن الشرائح الاجتماعية ـ الاقتصادية في البلدان العربية لا شان لها بنجاح حركة النهضة والتنوير والإصلاح الديني والحداثة.

ولكن أسباب فشل الحداثة في استيطان البلدان العربية لا تقتصر فقط على هذا السبب وإن كان هو أهم الأسباب، والمحرك الحقيقي لحركة النهضة والتنوير وتأهيلها لاستيعاب الحداثة. وينبغي أن نضيف إليه أسباباً أخرى شاركت بدور فعال في إفشال عملية الحداثة العربية ونمائها وتطورها ونضوجها.

كان يتعذر نجاح الحداثة دون نجاح حركة النهضة وحركة التنوير بما تحملان من أفكار جديدة قادرة على دفع تطوير المجتمع إلى الأمام، ولأن حركة النهضة العربية ومن بعدها حركة التنوير فشلتا في الواقع، ولم تستطيعا الوصول إلى نهاياتهما، ولم تنضج مكوناتهما ومفاهيمهما وتدخلا في عمق الثقافة الشعبية، لهذا كان من البديهي أن تبقى الحداثة بعيدة عن المجتمعات العربية، لأنها بالضرورة لاحقة لحركتي النهضة والتنوير.

على النطاق الفكري لم يحسم العرب (لافي حركة نهضتهم ولا في حركة تنويرهم) عملية الإصلاح الديني، وبقي كل شيء في الخطاب الديني مقدساً طوال قرنين تليا النهضة وحتى الآن مع أنه خطاب الفقهاء ولم يحقق العرب (الثورة) الفكرية المطلوبة، أو (الثورة السياسية)، كما لم يحققوا الإصلاح الديني لاجزئياً ولا كلياً، بل ربما أغرقوا الخطاب الديني بالأوهام والخرافات والبعد عن العقل والعقلانية.

وفي الآن نفسه لم يساهموا قي الاكتشافات الجغرافية في العصور الحديثة، ولا في الاكتشافات العلمية، أو (الثورات) العلمية والتقانية والمعلوماتية والصناعية على مختلف أنواعها، وبقيت مجتمعاتهم زراعية متخلفة بعيدة عن التصنيع معتمدة على استيراد البضائع والسلع، أي بصريح العبارة خارج العصر ومعطياته.

وقد زاد الطين بلة الغزو الاستعماري لبلادهم طوال القرنين التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، ثم الوجود الصهيوني الذي استنزف إمكانياتهم وقلب أولوياتهم، وأبعدهم عن التنمية الحقيقية، واضطرهم لتكريس جهودهم للحروب وبدد جرأتهم على تبني إصلاح فلسفي وديني وتراثي، واضطروا للسكوت على انحرافات الفقهاء وسطوة التراث وإبقائه دون نقد وغربلة، مما أفشل إرهاصات الحداثة التي بدأت مع النهضويين الأوائل ومنعها من أن تصل لغاياتها.

كاتب سوري

odat-h@scs-net.org

Email