في مقبرة المدينة وخلال جنازة أحد الأقرباء، تذكرت وبأسى أن الكثير من أقربائي ومن أهل المدينة قد دفنوا في هذا المكان وأن هذه المقبرة المنعزلة تحوي ذاكرة مدينتنا غير المكتوبة وأن الكثير من تاريخنا وقصصنا قد دفنت معهم. وتساءلت وأنا أتأمل في وجوه الحاضرين، لم إذاً نحرص كثيراً على التواجد في المناسبات الحزينة؟
جاهدت و«أنا المقصر» بعد انتهاء مراسم الدفن أن أجد مكان قبر جدي وجدتي، لكن الفترة الزمنية الطويلة والعرف المطبق عندنا الذي يمنع وضع أي أسم أو علامة مميزة على الشاهد والقبور منعني من معرفة قبريهما.
بحماس شديد واصلت بحثي بين القبور لكن خذلتني ذاكرتي وتشابهت أمامي كل القبور، استغفرت ودعيت لهما في قلبي وغادرت المكان وكلي يقين أن مقابرنا مكان موحش جداً وأن حارس المقبرة الوحيد الذي كان ينظم عملية الدخول والخروج في ظل الزحمة يحتاج لعلاوة خطر وخوف.
المقبرة مكان غير مرتب فعلاً والواضح أنها تدار بطريقة غير منظمة، يداهمك هذا الإحساس السلبي فوراً عند دخولك إلى أرض المقبرة التي نطلق عليها محلياً مسمى (المعشرة) وقد تفاجأ عند دخولك إليها بعدم وجود مواقف للسيارات ومسارات للمشي أو حتى إنارة مناسبة ليلاً تخدم المشيعين وعملية الدفن.
يعطيك المكان انطباعاً سيئاً بأننا عندما ندفن موتانا لمثواهم الأخير كأننا نريد أن ننساهم وننسى المكان معهم. ربما البعض وبخوف مقرون بجهل يظن أن هذا المكان هو «النهاية» فلا يستحق أي اهتمام إنساني أو مدني.
إذا لم تدخل المقبرة منذ زمن فتأكد إنك لم تفتقد شيئاً، فالمكان المغبر لا يزال على حاله والقبور النصف مهدومة والمتراصة ما زالت تعاني مكانها والحيوانات الضالة مثل القطط والكلاب تتجول بحرية! وبوابة الدخول الضيقة هي نفسها بوابة الخروج ونفس ثقافة المقابر المتوارثة ما زالت منتشرة إلى الآن حيث يأتي بعض إخواننا المطاوعة في أوقات متفرقة لمسح الأسماء أو التأكد من ارتفاع القبر خوفاً علينا من البدع.
والغريب في الأمر أنه ما إن تخرج من المقبرة حتى يتغير المشهد بأكمله، فالشوارع مرتبة والمواقف متوفرة والمباني الجميلة التي تعب عليها رجال البلدية ودوائر التخطيط في تنفيذها بحرفية لافتة ونسق حضاري تنتشر في كل مكان.
للأموات حرمة كما للأحياء حرمة، وعندما نحترم مقابرنا فإننا نحترم موتانا الذين هم أجدادنا وآباؤنا وأمهاتنا وجميع أهلنا الذين كانوا يوماً بيننا ويوماً ما سنكون معهم وتلك سنة الحياة أن نكون في نفس المقبرة التي تتجول فيها الحيوانات الشاردة.
هناك ضرورة ملحة للاهتمام بالمقابر وصيانتها بصفة مستمرة وحمايتها من الإهمال وحماية الأموات من الأحياء، فعدد السكان في تزايد مستمر والبناء العشوائي المرتب وغير المرتب أيضاً في ازدياد سريع ونتمنى أن يشمل الاهتمام بالمقابر في أي تخطيط مدني مقبل.
اهتمت الكثير من الدول غير المسلمة في الغرب والشرق بمقابر موتاهم وجعلتها مكاناً مناسباً للدفن والزيارة وهذا التصرف الحضاري يدل على احترامهم لموتاهم وتقديرهم لهم وهو نفس المبدأ الذي أوصى به ديننا الحنيف.
ولا نقارن هنا لمجرد المقارنة لكن احترام الموتى وأماكن دفنهم عمل أخلاقي يستحق التنويه. إذا فكرت يوماً في زيارة المقابر للعظة والتذكر والتأمل أو لأي حاجة في نفسك، ستجد بعد حصولك على موقف مناسب أنك في مكان غير مناسب، وسوف تحبط وتحزن على الأموات وعلى نفسك وتيأس من المكان، واليأس كما يقال أول سكرات الحياة.
كاتب إماراتي