مشهد الفصائل السنية والشيعية العابرة للحدود لقتال أخوة لها في الدين والإنسانية يذكرنا، بشكل نسبي جدا ومع فوارق كبيرة، بالحملات الصليبية التي أتت من كل مكان في الكرة الأرضية لاحتلال المنطقة بذريعة الدفاع عن المقدسات... واتضح لاحقا ان كل حديث المقدسات إنما هو غطاء لأهداف سياسية أو لخدمة الدول التي حركت هذه الحملات.

طبعا، البعض سيشهق ويستغرب ويضرب يده على صدره. كيف يشبه هذا الرجل «حركتنا الانتصارية لديننا الحنيف بالحملات الصليبية»؟ ونرد قبل أن يستمر الانفعال بأن جزئية تغطية الأهداف السياسية باللبوس الديني لا تختلف عن نظيرتها الصليبية التي جيشت المشاعر ورفعت العصبيات وأوهمت الشباب الأوروبي بان الانتصار للمقدسات على بعد آلاف الكيلومترات أهم من الانتصار لبناء مجتمع متحضر راقٍ يعتمد التنمية والتطور أساسين له تماماً كما تريد التعاليم المسيحية الحقة... وكانت النتيجة أن المنطقة تضررت وانهكت من جهة، وأن المجتمعات الاوروبية احتاجت قرونا للملمة شهدائها ومجتمعاتها وتضاريسها وخرائطها من جهة أخرى.

شباب سنة وشيعة في عمر الورد يجلسون في مكاتب ومدارس وسراديب وكهوف. تغسل أدمغتهم. يفصلون فصلا عن واقعهم بالتعبئة المستمرة المرتبطة بما أوهموهم أنها تعاليم الدين والشريعة. الدنيا كلها في مفهموهم قد تصبح مع الشحن الدائم نوعاً من الخطيئة لان من يعبر سنواتها ولا يغير «مساوئها» بيده وبالروح وبالدم يكون شاهدا على «كفر» لابد من الجهاد لتغييره... هكذا يتم نقلهم من منطقة إنسانية الى منطقة أخرى.

لكن «الجهاد» أين؟ ضد الشيعة في العراق أو ضد السنة في العراق؟ ضد السنة في سورية أو ضد الشيعة والعلويين في سورية؟ ضد اخوة المذهب في افغانستان وباكستان ودول الخليج أو ضد دول اخرى عربية وعالمية؟ «جهاد» ضد فتية وفتيات يتسابقون في بوسطن؟ ضد نساء في سوق؟ ضد اطفال في مدرسة؟ ضد مسجد؟ ضد حسينية؟... وبما اننا عرب ومسلمون نمضي الوقت كله في الكلام وتكييف اللغة فلن يفوت هذه الفصائل توصيف «العدو» لتغذية حوافز النقمة عند «المجاهدين» مرفقا بكل ما يشحن ويستفز من فيديوهات صحيحة أو مركبة أو موجهة. فهنا «التكفيري الناصبي» يساعد الاميركي الصليبي والاسرائيلي اليهودي، وهناك «الصفوي الرافضي» يساعد الاميركي الصليبي والاسرائيلي اليهودي، و«الجهاد» الاصغر ضد هؤلاء معبر ضروري لـ«الجهاد» الاكبر، بل جزء من مواجهة الاستعمار والاستكبار وأعداء الامة والدين.

أعرف تماما أن القضية حساسة وأكبر من أن يتناولها مقال، وأعرف أن المتربصين المتصيدين يشحذون سكاكينهم لالتقاط كلمة هنا أو هناك لتصويرها وكأنها خروج على الدين والشريعة، وأعرف أن هناك من سيهمس في اذني: «ما لك ولهذه المواضيع فالأجواء مجنونة وعند الجنون تضيع اشياء كثيرة»، لكنني أعرف أيضا وأؤمن ايضا بأن لا كهنوت في الاسلام ولا وسيط بين الخالق والمخلوق، وان من غيب عقله أو تم تغييب عقله مكانه عيادات المختصين، وان المزايدة على الناس بإيمانهم ودينهم وعقائدهم وتكريس مقولة «أما انت معنا فهذا هو الايمان وأما انت ضدنا فهذا هو الكفر» هي مقولة مردودة على اصحابها... ومن كفر مسلما فقد كفر.

بين «جهاد» البعض و«جنون» البعض حرف مشترك في اللغة وحرائق كثيرة في المجتمعات والامم والاديان. وكلما تراجعت المطالبات بعودة الوعي خوفا أو قرفا أو تواطؤا تقدم امراء الشارع ومشايخ الفتنة والجهل وتوسعت جبهات القتل. اي عقيدة هذه التي تسمح بقتل اخ لنا في المذهب والدين والمواطنة والانسانية؟ إنها عقيدة سياسية خاصة بمن غسل عقول الشبان بها وليست من الدين والدنيا في شيء. عقيدة مصلحية قائمة على تغييب العقل والمنطق والوعي وجعل «المجاهدين» وقودا لحرائق يعلم «امراؤها» متى تندلع وأين لكنهم لا يعلمون اين ستنتشر ومتى ستتوقف. عقيدة هدفها تغيير الشباب المسلم من بشر الى رصاص في مخازن البنادق ينطلقون من فوهاتها ولا يبقى منها سوى الفراغات.

يكتمل المشهد، وكما تمكن الغرب من صنع صواريخ باليستية عابرة للقارات تمكن هؤلاء من صنع «مجاهدين» باليستيين وقنابل بشرية عابرة للحدود والقارات. كانت العمليات في البداية عبارة عن تفجيرات تحصد «اعداء» مفترضين وابرياء مع تسجيلات تعرض مرفقة بصوت يصرخ «الله اكبر». تطور الوضع اليوم الى مشاركات بالقتال الدائر على الارض لا بعمليات تفجير فقط لكن عبارة «الله اكبر» بقيت ثابتة. تقف كل الاطراف المتحاربة (انظمة ومعارضة) وراء المدفع لضرب قذيفة ستقتل من تقتل وتدمر من تدمر ثم يقترب الجنود أو الثوار من الكاميرا ويصرخون «الله اكبر»، تحصل مجزرة فيصرخ المسلحون «الله اكبر»، تسقط قرية فيصرخ الداخلون «الله اكبر»، وتستعاد القرية فيصرخ المنتصرون «الله اكبر»، يصورون الاطفال الصغار امام الكاميرات يهتفون وينشدون ويتحدثون بلغة سوداء طائفية فيصرخ من يقف الى جانبهم «الله اكبر»، يقف مفتو الانظمة يبخرون للقائد فيختمون الحديث عن امجاده بالتكبير «الله اكبر».

... وسبحان الله جل جلاله عما يفعلون ويقولون، «لا يسأل عما يفعل وهم يسألون» (سورة الانبياء).

الله اكبر فعلا. الله محبة. الله سلام. الله الذي لم نره عرفناه بالعقل. عرفناه بالتسامح. بالمغفرة. بالوحدة. بالاخلاق. بالعلم. بالتحضر. بالرقي. باحترام الانسان لاخيه الانسان. نحن عرفناه... أما من تحدثنا عنهم فهم حكما لا يعرفون الله.