عبر مقطورةٍ هاربةٍ، أهْرَعُ في عَدْوي إليها بين عَثَرات متكررة أفقدتني توازني، أزلُّ مكباً على وجهي في كُل مرة، وتتعرقل خطواتي حتى ظننتُها تسرق أيامي! في أول الأمر، ما أن امتطيتها حتى أيقنت بأنها تحميني من الحظوظ الكوالح ودواهيِ الأيام!
كِلانا يجهل الآخر وكِلانا يحمل في جُعبتهِ الكثير! على متن تلك المقطورة الهاربة باحَ كُلٌّ منا بمكنون صدرهِ، دون أن يعرف أحدٌ منا الآخر. أيقنتُ حينها بأن من أصعب ما يمتحِن بهِ القدَر عندما يفلت منا زمام الأمور، ويمسي الصراع الذي نحتويه بين جوانحنا بجلبابٍ ومفاتيحَ مكبلة بسلاسل لا يمكن لأحد اقتحامه، أقوى منا، فنبُوح به لمن ترسو مراكبنا في مينائه، وإنْ كان ذلك نادراً!
يذكِّرني هذا الموقف بقصيدة حافظ إبراهيم:
أَخفَيتَ أَسرارَ الفُؤادِ وإنما.. سِرُّ الفُؤادِ مِنَ النَواظِرِ يُسرَقُ.
لا حاجة لي اليوم بأن أسأل ماريا عن ذاك السيل المنهمر في بحر محجريْ مقلتيها، فعيناها ترويَّان وتسردان لي قصصاً، واحدة تلوى أخرى. بين يديها تحتضن فنجاناً أَعدَّهُ لها بعناية السيد ألبرت، صنع ذاك الفنجان من فخار وحجر طِّينيّ مزخرف. من النظرة الأولى عندما تقع عيناكَ على تلك الخُدوشِ المتآكلةِ جوانبُها تدرك أنه قد مرّ عقدٌ من الزمن بين تلك الأنامل وذاك الفنجان! تكمن قصة يجهلها الجميع عداهما! تَغمَض عيناها وكأنها تسترجع ذكرياتها بين رشفة وأخرى، يختفي الدمعُ، وتظل تحت تأثير الغائب الحاضر وسط تلك الأدخنة المتصاعدة من ذات الفنجان، وذات اللحظة وذات اليوم!؟
أما عن ماريا فهي لا تزال شابة وإن اجتازت 80 عاماً بملامحها البريئة التي تشبه ملامح امرأة في 40 من عمرها، وصوتها الرقيق والدافئ كصوت الأطفال! أما حين تخطف النظرة من عينيها فتدخلك في حيرة بين نظراتٍ عميقة وخادرة، حادة وناعمة، غائلة وموغلة، ساكرة ورقيقة، صادقة ومؤلمة، لها في كل نظرة سرٌّ وجاذبية، وكأنها في صراعٍ مستمر ليس من أجل البقاء وإنما للاحتفاظ بذلك الشعور وتلك الذكريات!
انتظرتها حتى تنتهي ثم تقدمتُ خطوتين بعد أن استأذنت منها، جلستُ بجانبها، أمسكت أطرافها الناعمة، وقلت لها: أيتها السيدة الصغيرة بجمالها والكبيرة بحكمتها وتفاصيلها وطقوسها النادرة عندما قيل لي إن لكِ طقوساً نادرة أثرْتِ فضولي، وكان هذا أحد أسباب إصراري، فأنا كاتبة ولي قلمي المعروف ويلفتني الشخوص ممن هم مثلك!
أوَتسمحين لي بأن أسرد ما قرأتهُ عينايَ هذه الليلة؟ ابتسمتْ ورفعت يديْها عن يديَّ، وأبعدت نفسها أو انطوت في الطرف الأخير المجاور لتلكَ النافذة وعيناها ترقُبان سرعة القطار، وقالت بصوتٍ يرتعد: وماذا رأت عيناكِ؟!
رأيت إخلاصاً يقابله وفاءٌ بلا حدود! رأيت انكساراً يقابله شموخ، صدقاً يقابله ويجاريه حب وقناعة!