يولد النجاح من رحم المعاناة، هكذا يقال.. ولست على يقين بمدى صحة هذه العبارة، ولكن أحياناً نشعر بها عندما نحقق ذلك النجاح الساحق، الذي كنا نسعى إليه، وكأننا وصلنا إلى قمة ذاك الجبل المتفاوت بين علو وارتفاع بمنحدر واحد أو حتى بلا منحدر، والوصول إلى القمة معجزة بحد ذاته، وما إن نصل إلى رأس تلك القمة حتى نأخذ نفساً عميقاً. لا تكون النهاية، ولكن نقطة انطلاق من جديد، بهدف جديد، ورؤية جديدة، ومن منظور مختلف أيضاً، هكذا كان إحساسي، بعد أن شعرت بأنني وصلت إلى رأس تلك القمة. حان وقت الهروب. أحد أهم قوانين حياتي الهروب من عناء جسدي، للوصول إلى راحة قلبي وفكري.
أُدعى فيليب، رئيس تحرير صحيفة «يوهان كارولوس»؛ سميتها بهذا الاسم نسبة إلى أقدم صحيفة مطبوعة في التاريخ. صحيفة «يوهان كارولوس» الألمانية، التي نشرت لأول مرة في ستراسبورغ سنة 1605 من قبل الصحفي يوهان كارولوس، وقد كانت الانطلاقة الأولى للصحف المطبوعة، حيث نشرت في أوائل القرن الـ 17. كان تحقيق هذه الصحيفة بمثابة حلم بالنسبة لي أن أستطيع تأسيس صحيفة مميزة، وفعلاً استطعت بعد جهد أن تكون إحدى أهم الصحف في أوروبا، وبعد إنجاز وعمل متواصل قررت الهروب في إجازة قصيرة، أبحث بها عن راحتي لمدة أسبوعين، وطوال هذه الفترة اعتاد القراء توجيه رسائل مختلفة المضمون إلى الصحيفة، أحياناً تكون عبارة عن رسائل مجهولة وأشبه بسحابة فضفاضة، ندرسها ونقيمها ثم نقدم لها النصح إن وجد.
وفور عودتي تراكمت الأوراق فوق مكتبي، وجرت العادة أن أفتح المظاريف في آخر ساعات الليل، ولا تسألوني عن السبب، فلا علم لي لماذا عوّدت نفسي على ذلك. كل شيء كما تركته، ورفيقي الطير «الببغاء» المزعج في مكانه، ولحسن الحظ أنه ينام 12 ساعة في اليوم، ما يتيح لي الفرصة لقراءة الرسائل المرسلة للصحيفة، وما إن وطئت قدماي المكتب حتى دار الصوت، الذي يرافقني طوال الليل لخوليو خوسيه إغليسياس على تلك الطاولة، بجانب الشرفة الجانبية المطلة على ساحة المدينة، التي تكسوها أغصان زهور النرجس البرية المتمردة على وشك أن تخترق الحائط. أحببت تمردها، ومع فنجان قهوتي وضعت المظاريف جانباً، بعد أن نفضت ما عليها من غبار وأتربة متراكمة، وكأنه قد مر عليها عقد من الزمن، بدأت أسترسل في قراءتي ببطء وتمهل، توالت علي المظاريف، وقبل شروق الشمس بساعة أقتطف ما لا ينبغي اقتطافه. فتحت أحد المظاريف المغلفة بزهور النرجس، فتحتها وعبقها انتشر في يدي، في لحظة من لحظات اعتراني الخوف قبل فتحها وخشيت أن أقرأها.. كتبت عليها: رسالة إلى صاحبها! من هو صاحبها؟ تقول في رسالتها: خجل ثوب الليل، فانسحب تدريجياً بعد امتداد لليلة طويلة، تسللت ظلامته شيئاً فشيئاً بهدوء من دون أن يشعر به عشاق الليل، وما إن انشق الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ومع أول إطلالة لخيوط الشمس، التي بدفئها تطوق أجسادنا، من هنا بدأ الإعلان عن بداية يوم جديد مع إشراقة شمس يوم جديد، في بزوغها ضياء يملأ المكان نوراً، ومع هذا وذاك ما زلت منكباً على وجهي بين تلك الأوراق، لا أشعر بشروقها ولا بظلامها، تشظى العود، وتطايرت شظاياه، حاولت أن أتجنب مخاطرها وأبعدها عني بكل ما أملك من قوة إلا أنه كانت هناك قوة جسور أجبرتني على الانخراط في أعماقها، والاندماج في سطورها.
تمغط الفرس في داخلي، وجرى بي بعيداً، مد قوائمه وتمطى في جريه حتى قطع أنفاسي طوال تلك الليلة، فلم أعد أشعر بجسدي ولا بأصابعي، أسرد الصحيفة وأقرؤها بتتابع وتمعن، وأنظر إليه ملياً... لعل.
دقت الساعة السابعة صباحاً، وبدأ طيري يغرد في كلامه، ولم أعد أفهم منه، بدا كصوت هدير الإبل: «صباح الخير، صباح الخير أيها المشاكس». ضحكت منه فقلت له: نعم صباح الخير أيها المشاكس. اعتاد دائماً أن يدعوني بـ«المشاكس»، لا أعلم من أين أتى بها. حاولت أن أنهض من مكتبي، طرفت كثرة الأوراق عيني فأعمتهما، وهاض الكرى قدمي، ولم أعد أشعر بهما، تخطيت الأوراق والكتب، أتجاوزها وأتعداها بصعوبة، لم يعد باستطاعتي مواصلة السير شيئاً فشيئاً، حتى فتحت نافذتي، وأغمضت عيني بعد أن استنشقت هواء مدينتي، وأخرجت نفساً طويلاً من جراء ما قرأته طوال الليل. مع تردد الأنفاس في صدري واندماجها بزهرة النرجس البرية، أعشق ذلك البياض الناصع وبراءتها واندماجها مع لون الأصفر الجريء، وفي ذلك الاندماج، الذي يسوده البياض يعطيك انطباعاً وشعوراً بالسكينة.
وفي تلك الأثناء دخلت مساعدتي وهي تصرخ كعادتها، لقد بلغ الأمر ذروته، فهذا لا يعقل. ما الشغف الذي يحملك على السهر طوال الليل.
نظرت إليها نظرة مجهد وقلت لها: هذه الرسائل أثرت في أثراً بليغاً، البعض منها واقع جميل، والبعض الآخر كلام تمجّه الأسماع، ويستنكره العقل.
خذ قهوتك ويكفي ذلك سيدي. هل من الضروري أن نسمع بآذان صاغية كل ما يتفوه به الآخرون، هل يجدي نفعاً، أم أنه مجرد أعباء نحملها على عاتقنا.