يأتي الاعتراف الأميركي بدولة في جنوب السودان منسجماً مع كل ما سعت إليه الولايات المتحدة الأميركية منذ البداية لتقسيم السودان، ولذلك فهذا الاعتراف هو في سياقه خطوة طبيعية متوقعة بالمعنى الأميركي، وستتلاحق وتتسابق الدول الأوروبية وغير الأوروبية للاعتراف بهذه الدولة الجديدة، ذلك أن خطاب الغرب (الديمقراطي) هو خطاب مزاجي، يعترف بالديمقراطيات التي تناسبه والنتائج التي تلبي طلباته، ويتجاهل كل ما هو غير ذلك، فإذا أفضت أي ديمقراطية إلى إنتاج سلطة أو قرارات أو مفاعيل لا تتساوق مع مشروع أميركا ورغباتها ينقضُّ الأوروبي والأميركي والإسرائيلي على هذا النموذج الديمقراطي، ومثال ذلك الانتخابات الفلسطينية التي ارتقت بحماس إلى موقع الحكومة.
وبطبيعة الحال ثمة نماذج كثيرة حاضرة تؤكد أن ازدواجية المعايير هي منطق أميركي أصيل، وأن الأميركي لا يجرب الاختباء والتنكر لهذه المقولة، بل يعتبرها صفة حيوية لسياساته ويربطها دائماً بتنوع مصالحه في الجغرافيا والاقتصاد والسياسة، ولا يعتدّ بطبيعة الحال بأي حديث يشير إلى ثوابت أو التزامات أو أخلاقيات لا غنى عنها، بل يفسر تناقضه وازدواجيته بأنهما نمط من السياسة التي تتجاوز معايير المبادئ والوفاء للأصدقاء، وما يحدث مع النظام المصري هو نموذج أيضاً لذلك، وما حدث في تونس كان نموذجاً آخر...
وفي كل الأحوال فإن الخلاصة مما جرى في السودان وغيره تؤكد أن أي تهاون أو تراخ في ربط المصالح الوطنية بغير ما يجب أن ترتبط به يعني الارتهان للخارج، ومن ثمّ يعني القبول بأنماط للسياسة الغربية لا موضع فيها لمبادئ ولا لأخلاق ولا لكرامات ولا لحريات ولا لمصالح وطنية.
مجدداً الاعتراف بدولة في جنوب السودان ليس نهاية المطاف بالنسبة للدور الأميركي في السودان وأفريقيا عموماً، بل إن قيام هذه الدولة هو إعلان رسمي لحقبة أميركا الإفريقية وما ستحمله هذه الحقبة من تداعيات تمتد من قيام أنظمة جديدة إلى تفكك دول قائمة وإلى الكثير من الفوضى السياسية.