زايد وراشد.. فارسان في ضمير الوطن

هناك حكمة عميقة المحتوى بسيطة التركيب خُلاصتها: «مَنْ صحّتْ بدايته، أشرقتْ نهايته».

وربما تبادر إلى الذهن أنّ هذه الحكمة خاصة بالإنسان في مسعاه الفردي في هذه الحياة، لكنّ النظر الصائب العميق يكشف للناظر أنها كما تصلح للفرد فقد تصلح للمجتمع والدولة والحضارة، وحين ننظر في نشأة دولة الإمارات العربية المتحدة قبل 53 عاماً نرى مصداق هذه الحكمة على هذا الحدث التاريخي الفريد، فقد كانت هذه البلاد محظوظة حين قام على توحيد شملها، وجمع قادتها فارسان متحققان بأعمق معاني الفروسية الصحيحة، المغفور لهما، الشيخان: زايد بن سلطان آل نهيّان، وراشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراهما، فهما في الذروة العليا من الفروسية الأخلاقية، وهما من فرسان التنمية والبناء، وفرسان الكرم والحكمة، فكان من سَعد التوفيق ويُمْن الطالع أن يكون شأن توحيد البلاد أمانة في عنق هذين الفارسين الكبيرين اللذين ضربا أروع الأمثلة في نكران الذات والإيثار في سبيل بناء وطن متّحد قوي متماسك يجتمع فيه شمل حُكّام الإمارات السبع التي يقوم على حكمها رجال من طراز أخلاقي فريد لم يجدوا أدنى غضاضة في الاستجابة لنداء الشيخ زايد بن سلطان، طيب الله ثراه، الذي كان يحمل همّ توحيد البلاد وبناء الوطن النموذج، والارتقاء بالإنسان في المقام الأول باعتباره وسيلة التنمية وغايتها، وروح الحياة وقيمتها.

وكما كانت الإمارات محظوظة بقادتها المؤسسين، كانت محظوظة كذلك بقائدٍ من نمط متفرّد يحمل في قلبه نبض الشاعر، وفي قلمه بصيرة المؤرخ، وفي نظرته عين الصقر، ذلكم هو صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، الذي خلّد وطنه الإمارات على جميع المستويات، فهي قصيدته الكبرى على مستوى الشعر، وهي مادته التاريخية حين يكتب عن تاريخ نشأتها ونهضتها، وهي الصورة التي يُبدعها بريشة الفنان حين يتكلّم عن حُبّه لها وعشقه لكل ذرة تراب من ذرات ترابها.

ولأنّ ذلك كذلك فقد خلّد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد تلك اللحظة التاريخية النادرة التي جمعت بين الشيخين الكبيرين؛ زايد وراشد عام 1968م في عرقوب السديرة في الخيمة الشمالية بين أبوظبي ودبي، وهي اللحظة التي حوّلت الحلم إلى حقيقة، وبدأت نقطة اللاعودة لتأسيس دولة الإمارات العربيّة المتّحدة.

وفي غمرة الاحتفالات بالذكرى الـ53 لنشأة دولة الإمارات، وترسيخاً لقيمة تلك اللحظة التاريخية الفريدة، وتأكيداً على الدور الكبير للقادة المؤسّسين نشر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد تدوينة ثمينة على حسابه في مواقع التواصل الاجتماعي عبّر فيها عن عمق شعوره بأهمية ذلك اليوم الخالد في تاريخ الإمارات، حين نشأ هذا التاريخ تحت رعاية اثنين من أروع القادة يساندهما في تحقيق حلمهما كوكبة من فرسان الوطن من حُكّام الإمارات الأخرى، لتلتقي هذه القلوب الصافية والسواعد القوية على محبة الوطن ورفع علمه شامخاً فوق الرؤوس والهامات.

«زايد وراشد.. هامات وقامات خالدة في سجلّ الفخر والمجد»، بهذه النبرة الصادقة الواثقة يؤكّد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد أنّ سجلّ التاريخ، سجلّ المجد والفخر سيفتح أنصع صفحاته للشيخين الكبيرين؛ زايد بن سلطان، وراشد بن سعيد، بوصفهما اثنين من كبار الشخصيات وأفذاذ القادة كي يصطفّا إلى جانب القادة الكبار الذين تحتفظ بهم الإنسانية كنماذج متفردة مُلهمة، قدّمت أروع الأمثلة في التعاون والإيثار وتقديم المصلحة العامة للوطن على المصلحة الخاصة، وتمّ على أيديهم بناء وطن متفرد في جميع مسارات التنمية والتقدم.

«سنروي للأجيال قصة لقاء صنع التاريخ، لقاء الأخوّة والمحبة في عرقوب السديرة يوم 18 فبراير 1968، في ذلك اليوم تصافحت القلوب قبل الأيادي، والتقت الرؤى لتوحيد المصير، كان ذلك السطر الأول الذي خطّه زايد وراشد في حكاية وطن الاتحاد» في هذا المقطع البليغ المؤثّر من التغريدة يتّخذ صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد موقع السارد الذي يكسو الحقيقة أعمق إحساس ذاتي حين يريد التعبير عنها، فهو لا يكتب لنفسه؛ لأنّه قد عاش تلك الأحداث وعايشها، بل يكتب للأجيال التي لم تشهد تلك اللحظة التاريخية الفاصلة في مسيرة الوطن، ويريد لها أن تلمس صدق ذلك الموقف من خلال هذه اللغة الشاعرية الرقيقة التي تسطّر للأجيال عمق المشاعر الأخوية الصادقة التي جمعت بين قلبين كبيرين في منطقة اختارها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد بعناية وبصيرة حين كلّفه والده باختيار مكان مناسب للقاء بين أبوظبي ودبي، فاختار بناء الخيمة في عرقوب السديرة، حيث ينفتح بابها على نسيم الصحراء العليل، وهو ما كتبه بأسلوب أدبي بديع في سيرته الذاتية «قصتي.. 50 قصة في خمسين عاماً» في القصة رقم 20 التي أعطاها عنوان «الخيمة الشمالية»، حيث أبدع في اقتناص تفاصيل تلك اللحظات الخالدة، ودوّنها بريشة الفنان المبدع، وإحساس الشاعر المرهف، بحيث لا يملك القارئ لتلك القصة إلا الدخول في قلب تلك الأحداث الرائعة قبل الإعلان عن قيام الاتحاد، وها هو صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد يعيد لنا تلك الذكريات التي تصافحت فيها القلوب قبل الأيادي، وتوحّدت الرؤى قبل توحيد الجغرافيا، فكان ذلك هو السطر الأول في دفتر الحكاية الطويلة التي كتبها القادة المؤسّسون بمِداد الحب والوفاء وصادق الانتماء.

«وطنٌ لا يعرف المستحيل، انطلق من الصحراء إلى أعماق الفضاء بهمة شعب الاتحاد»، ثم كانت هذه الخاتمة التي تلخّص حكاية الوطن في جوهرها العميق، وأنّه وطنٌ يقوم على الإرادة الصلبة والعزيمة القوية والرؤية التي لا تعرف المستحيل، وطنٌ انطلق من الصحراء القاحلة حيث الرمال الحارقة تحت أشعة الشمس اللاهبة، ليعانق السماء من خلال نقلة حضارية تمثلت في دخول نادي الدول المهتمّة بأبحاث الفضاء، وتجسّد ذلك في وصول بعض رواد الفضاء من أبناء الوطن إلى مراكز متقدمة في هذا العلم، فضلاً عن إرسال عدد من البعثات العلمية التي تُسهم في التقدم العلمي بخصوص الفضاء، ليكون ذلك تحقيقاً لمقولة الشيخ زايد، رحمه الله، قبل مدة طويلة حين قال: «الإمارات من الصحراء إلى الفضاء».

وبموازاة هذه المادة المكتوبة على موقع صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد كانت هناك مادة صوتية ألقاها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد بصوته المفعم بالتأثّر وهو يسرد تلك اللحظات الراسخة في ذاكرته، حيث أكّد أنّ ما حدث ذلك اليوم هو أكبر شيء حدث في العالم، وهو شيء لم يكن أحدٌ يتوقعه، حين تقابل زايد وراشد، ويكفي العود جنب العود، وكيف أنّه كان أصغر الموجودين، وأنه كان يخدم ضيوف أبيه ويصبّ عليهم القهوة، ويحاول استماع ما يدور بين الشيخين الكبيرين، وكانت أفضل عبارة سمعها هي كلمة والده الشيخ راشد مخاطباً الشيخ زايد، رحمهما الله: على بركة الله وأنت الرئيس، «ليردّ عليه الشيخ زايد قائلاً: «على بركة الله وضعنا حجر الأساس وبنبني الجدار إن شاء الله»، لتبدأ بعدها حكاية أجمل وطن تحمل توقيع رجلين يستحقّان الخلود في أعمق نقطة من قلب الشعب ووجدانه الوفيّ النبيل.