الاتفاق على سوريا

الملاعب عربية واللاعبون غير عرب، البيادق تتحرك بسرعة على رقعة الشطرنج، سوريا رقم مهم في معادلة استقرار الإقليم، اللحظة فارقة، لا بديل عن الحفاظ على الدولة السورية الوطنية بمفهومها الشامل، ولا بديل عن الخلاص من التنظيمات والجماعات الإرهابية الجوالة التي تعمل وفق مخططات تديرها أطراف تتسابق على النفوذ وتصفية الحسابات.

لم تمر سوى ساعات قليلة على إيقاف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنان حتى اشتعلت الأراضي السورية وبدأ العمل على نشر الفوضى والإرهاب، وتنفيذ ما عجزوا عنه طوال السنوات الماضية، التي استطاعت فيها الدولة السورية الصمود والثبات واستعادة مواقعها الدبلوماسية في جامعة الدول العربية، والمنظمات الإقليمية والدولية الأخرى، واستطاعت أن تعيد علاقاتها الدبلوماسية مع الأشقاء وغير الأشقاء.

لم يكن ذلك على هوى المتسابقين إلى تفكيك وتقسيم سوريا، الدولة الوطنية، فراحوا يتربصون باللحظة المناسبة، أطلق رئيس وزراء إسرائيل، بنيامين نتنياهو، تهديداته لسوريا، فخرجت أسراب الجراد من خنادقها تحاول أن تعيد الفوضى بأثر رجعي، اجتاحت المدينة التاريخية حلب، وصلت إلى حماة، ظنت أن الطريق سيكون مفتوحاً إلى دمشق، وتفعل خلال أيام ما عجزت عن تحقيقه خلال سنوات ماضية.

ويبدو أن كلمة نتنياهو كانت السر، لكن هذه الجماعات التي أخذت تخطط لذلك منذ فترات، اعتقدت أن الدولة السورية باتت هشة بعد الحرب الإسرائيلية في غزة ولبنان، وانشغال الأطراف الداعمة لها في مسارات ذاتية، كإيران التي تحاول أن تجد لها مقعداً جديداً في الشرق الأوسط، أو روسيا المنشغلة في الحرب الأوكرانية، أو حزب الله الذي يحاول أن يلملم قدراته في لبنان، بعد خوضه حرباً أطول من حرب تموز عام 2006، وفي ظل متغيرات إقليمية ودولية قد لا تكون مواكبة لوضع الحزب داخل الساحة اللبنانية.

ثمة سؤال يطرح نفسه بقوة.. لماذا تتخلى بعض أطراف اتفاق أستانا عن بنود هذا الاتفاق، الذي نص على خفض التصعيد في شمال غرب سوريا، وأيضاً في شمال شرق سوريا، وكانت أطراف هذا الاتفاق، هي روسيا وسوريا وتركيا وإيران، ونجح الاتفاق بالفعل في وضع حد للعنف والفوضى والدمار؟

يبدو أن هناك اتفاقاً على سوريا يحمل كل المعاني، اتفاقاً لدعمها والحفاظ عليها، واتفاقاً لتمزيقها بين هذا وذاك، تتكشف الأبعاد، أطراف دولية أخرى ترى أن الاستثمار الذكي في الحروب هو الأفضل لمصالحها الاستراتيجية، ففتحت جبهة جديدة في سوريا بعد لبنان وغزة، وأيضاً لعرقلة مسار الرئيس الأمريكي الجديد، دونالد ترامب، الذي قال إنه سوف يوقف الحروب.

هذه واحدة، أما البعد الثاني، فيكمن في محاولة استدعاء ربيع الفوضى، والدخول من البوابة السورية التي شكلت عبر التاريخ ممراً للأطماع والغزاة، وتشكيل ملامح الخرائط العربية، عبر اقتطاع أجزاء من بلاد الشام وضمها إلى دول أخرى، ويبدو أن أطرافاً مختلفة ترى أن اللحظة مناسبة، وسط سيولة إقليمية ودولية، يمكن النفاذ من خلالها لتحقيق ما لم يتم عام 2011.

الرسالة قاطعة وواضحة، سوريا تمر بمنعطف هو الأخطر في تاريخها المعاصر، سوريا ليست وحدها رهن الاختبار القاسي، إنما كل الخرائط العربية ستكون رهينة لهذا الاختبار.

ومن ثم، فإن اللحظة السورية تحتاج إلى قراءة عربية مغايرة ومتأنية، وإدراك كامل للعواقب التي قد تنتج جراء اهتزاز أو تفتيت أو تقسيم الدولة الوطنية السورية، فاللعبة أبعد وأكبر من جماعات مقاتلة جوالة ومرتزقة تقاتل من أجل أهداف لا تعرف مكنوناتها الحقيقية.

إن الزحام على طاولة سوريا، رسالة كاشفة لا بد أن تقرأ بعناية وإمعان من العرب، وأعتقد أن العرب فطنوا لهذا الخطر الكاشف هذه المرة، وسارعوا بالاتصال والوقوف مع الدولة السورية أو مؤسساتها الوطنية، وتبدّى ذلك في حالة الزخم العربي على الصعيد الدبلوماسي والسياسي والإنساني، عبر الاتصالات الدولية مع الأمم المتحدة، وجامعة الدول العربية، وضرورة إيقاف الفوضى والعنف في سوريا، وعلى صعيد التعاطف والفهم الشعبي في العواصم العربية، شاهدنا مواقف واعية وفاهمة لمخططات ربيع الفوضى الجديد، بعد أن عاش الرأي العام العربي طبعة الفوضى الأولى، وأدرك أن هذه الفوضى ليست في صالحه، وأن التنظيمات والميليشيات الإرهابية تعمل وفق أجندات تخريب تصب في صالح قوى أجنبية ودولية، ولا تصب في صالح الأوطان.

الشاهد الآن أن المتغيرات المتلاحقة التي تشهدها سوريا تحتاج وبشكل سريع إلى تحركات سياسية ودبلوماسية لقطع الطريق أمام أية محاولات لعودة التنظيمات الإرهابية.. أعرف جيداً أن الاختبار صعب، لكن أيضاً لدي يقين بأن الخرائط العربية لن تسمح أن تكون مسرحاً للتجريب مرة ثانية.