صراع القوميات أخطر ما يهدد روسيا

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما شَهدتْه العاصمةُ الروسية يوم السبت الخامس عشر من ديسمبر الجاري، لم يكنْ مجردَ مظاهرة بريئةٍ نظمها مُشجعو كرة القدم للمطالبة بإجراء تحقيق جدي في مقتل زميلِهم، بل كان مؤشرا مقلقا على تنامي الكراهية بين مكونات المجتمع الروسي، على أساس قومي. فقد أثبتت التحقيقات الأولية تَورُّطُ مجموعاتٍ قوميةٍ روسية متطرفةٍ في الشغبِ الذي رافق تلك المظاهرة.

ومن الملاحظ أن وضع التوتر والشحن العنصري بدأ يتخذ منحى مقلقا، الأمر الذي دفع القيادة الروسية إلى توجيه أشد التحذيرات لكل من تسول له نفسه المساس بالوحدة الوطنية لروسيا، هذه الوحدة التي عاشت بها روسيا أكثر من عشرة قرون، لم تشهد فيها نزاعات طائفية أو دينية، رغم التعدد الكبير للديانات بين فئات وقوميات الشعب الروسي.

لقد حاول الكثيرون طيلة الحقبة السوفييتية، استغلال العنصر القومي لإضعاف الدولة العظمى، ورغم أن هذا العنصر لعب دورا كبيرا في انهيار الاتحاد السوفييتي، إلا أنه لم يكن نتيجة للصدام بين القوميات والأديان، بل كان نتيجة لعدم قدرة النظام السوفييتي الشمولي المركزي، على التعامل مع هذا التنوع القومي والثقافي بشكل جيد وعادل. ولا يذكر أن القوميات والطوائف الدينية تصارعت في العهد السوفييتي فيما بينها، بل كانت جميعها متساوية في المعاناة من القمع الديني الشيوعي، الذي لم يستثنِ أي دين أو قومية.

لقد بقيت روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي دولة كبيرة تسكنها عشرات القوميات المختلفة، ويمكن القول بلا مبالغة إن كافة ديانات العالم موجودة في روسيا وتعتنقها أقليات وأكثريات، ويشكل المسيحيون الأرثوذوكس الغالبية من سكان روسيا، حيث تزيد نسبتهم عن ثمانين في المئة من السكان، ويليهم في العدد المسلمون بنسبة نحو ‬15٪.

ومن الواضح أن ثمة قوى خفية في الوقت الراهن، تتربص بروسيا وتعمل على استخدام نفس الأسلوب الذي أثبت نجاعته في انهيار الاتحاد السوفييتي، مستغلة لذلك كل فرصة سانحة، لكي تدمر روسيا. وتسعى هذه القوى إلى إشعال الفتنة بين الديانتين الرئيسيتين، المسيحية والإسلام. وعلى ما يبدو فإن هذا هو التخطيط الخفي لتحطيم روسيا وتفتيتها، وهذا المخطط لا يمكن أن ينبع من داخل روسيا لأنه يهدد الجميع في الداخل، بل من المؤكد أنه يأتي من الخارج من جهات معروفة بعدائها وكراهيتها لروسيا.

ولا يخفى على أحد ما حدث في روسيا في فترة التسعينات من القرن الماضي، حيث استطاعت حفنة من المشبوهين ومن قادة المافيا السيطرة على ثروات البلاد ونهبها وتحويلها للخارج، وذهبت هذه الفئة تخدم مصالح قوى أجنبية تسعى لتفجير روسيا وتفتيتها إلى أجزاء صغيرة، واعتقد الكثيرون أن القوى التي نهبت ثروات البلاد في فترة التسعينات قد تراجعت واختفت، لكن هذه القوى لم تستسلم، بل ذهبت تبحث عن وسائل أخرى لتحطيم وتفتيت هذه الدولة الكبيرة، التي تمثل عودتها لقوتها ودورها السياسي العالمي، مصدر قلق كبير لقوى أجنبية معروفة تسعى للهيمنة والسيطرة على العالم، وهذه القوى الأجنبية هي التي تدعم القوى الرجعية داخل روسيا، وتدفعها للتخطيط لإشعال الفتن الطائفية والنزعات العرقية بين طوائف وقوميات الشعب الروسي.

القيادة الروسية سبق وأن حذرت مرارا وتكرارا من هذا الخطر، وقد نجحت هذه القيادة في حسم النزاعات وإيقاف الحروب في شمال القوقاز، وخاصة في الشيشان، ولكن ما زالت الجهات الأجنبية الكارهة لروسيا تدعم بعض المتمردين والإرهابيين في شمال القوقاز، ولكن على ما يبدو أنهم لاحظوا عدم فاعلية جهودهم هناك، فقرروا نقل النزاعات الطائفية داخل روسيا وفي مدنها الكبيرة، لهذا قاموا بإعداد عناصر راديكالية متطرفة وعناصر إجرامية، وزودوهم بالمال وبأدوات الشغب، وأطلقوهم وسط التجمعات الشبابية الكبيرة التي تحتشد أثناء مباريات كرة القدم، ليفتعلوا الشغب والقتال والفوضى، وهذا ما حدث في سانبطرسبرغ وفي العاصمة موسكو في منتصف ديسمبر، حيث فوجئ الجميع وسط أحداث شغب بسبب مباراة كرة القدم، بشعارات طائفية وعرقية مكتوبة ومعدة من قبل لترفع في المظاهرات، منها شعارات تقول «روسيا للروس فقط»، وهذا الشعار يعني بالتحديد طرد كل من هو ليس مسيحيا أرثوذوكسيا من روسيا، حيث أن كلمة «روسي» في مصطلح القوميات، لا تعني كل من يحمل الجنسية الروسية، بل تعني فقط المسيحيين الأرثوذكس البرافاسلاف، أما المسلمون فهم بالجنسية «روس» ولكنهم بالقومية شيء آخر، كل حسب وطنه القومي، فهناك الشيشان والداغستان والتتار والبشكير وغيرهم، أما اليهود الروس فلا يطلق عليهم «روس» بل جميعهم قوميتهم واحدة هي «اليهودية»، علما بأن المسيحيين الكاثوليك الروس أيضا لا يعتبرون من القومية الروسية، وهذا في الحقيقة سؤال معقد للغاية، وهناك من يلعب على تعقيدات هذا السؤال لإشعال النزعات القومية في روسيا.

الصراعات القومية والطائفية تجد لها تربة خصبة وسط العناصر الراديكالية المتطرفة ووسط تجمعات المجرمين، وفي هذه الأوساط تنشط المخططات الأجنبية الساعية إلى تفتيت الدولة الروسية الكبيرة.

وليس غريبا أن تلقى الإجراءات الحازمة والقوية من السلطات الروسية تأييدا واسعا في المجتمع الروسي، الذي يخشى تماما دخول روسيا في فخ النزاع الطائفي القومي.

Email