المشروع الروسي والتراجع الأميركي

ت + ت - الحجم الطبيعي

يبدو أن روسيا تراجعت عن فكرة الدعوة لعقد مؤتمر للسلام في الشرق الأوسط لديها، فقد أعلنت موسكو أن الدعوة لعقد مؤتمر على أرضها للتسوية الشرق أوسطية يتطلب ظروفا أكثر ملاءمة، وأن الأمر يتطلب تحقيق تقدم ملموس في إقامة حوار عربي/ إسرائيلي، خاصة أن المفاوضات الإسرائيلية/ الفلسطينية المباشرة التي استؤنفت تحت رعاية أميركية، دخلت مأزقا حقيقيا، وفي مثل هذه الظروف لا بد من استيعاب ما يحدث في المنطقة أولا، ثم تفعيل العمل السياسي.

لقد شعرت روسيا في الفترة الأخيرة أن الدور الأميركي في الصراع العربي/ الإسرائيلي، قد تراجع وفقد الكثير من فاعليته، وأن واشنطن نفسها تشعر بالفشل في القيام بدور حاسم، أو حتى التوصل لشكل توافقي يحفظ ماء وجهها أمام العالم. هذا التراجع الأميركي أعطى الإيحاء للبعض بأن هذه فرصة جيدة لروسيا للتقدم بمشروعها لاستضافة مؤتمر للسلام في الشرق الأوسط، ومن خلال هذا المؤتمر تفرض روسيا نفسها كبديل للراعي الأميركي. لكن موسكو لا ترى أن هذا الأمر ممكن أو حتى مطلوب في الوقت الحاضر، فالروس يرون أن دورهم في الشرق الأوسط لا يمكن أن يعود لما كان عليه في زمن الاتحاد السوفييتي، وتعلم روسيا جيدا أن لا أحد في المنطقة يريد ذلك، ولا حتى العرب أنفسهم، ناهيك عن إسرائيل التي ترفض ذلك تماما. ولهذا رأت موسكو أن من الأفضل التراجع عن مشروع استضافة مؤتمر السلام الآن بالتحديد، حتى لا يتصور أحد أنها تطرح نفسها كبديل للراعي الأميركي، وفضلت أن تطرح مشروعا آخر بديلا يتلاءم مع الظروف الحالية، من خلال توسيع الرباعية الدولية في الشرق الأوسط، بضم قوى جديدة إقليمية ودولية تكون لها المقدرة على أداء دور فعال في النزاع.

وقد لا تبدو واضحة دوافع الجانب الروسي في تبني هذا المشروع، لكن الأمر يرتبط بأن الأدوات التقليدية للتعامل مع قرارات الشرعية الدولية لم تعد كافية، وبات من الضروري تفعيل أدوات إضافية، وتكمن أهمية هذه الأدوات في زيادة الضغط على جموح طرفي النزاع، وتحديدا الطرف الإسرائيلي.

لم يعد خافيا على كافة أطراف المجتمع الدولي أن حكومة تل أبيب تتعمد إفشال الجهود الدولية لتسوية أزمة الشرق الأوسط، وتستغل في تحقيق ذلك الاحتكار الأميركي لعملية السلام في المنطقة، استنادا للتحالف الاستراتيجى بين الولايات المتحدة وإسرائيل. وهو تحالف من نوع خاص، لا يمكن أن تحققه حكومة تل أبيب مع أي دولة أخرى، كما لا تستطيع أي دولة أخرى، بخلاف الولايات المتحدة، أن تقيمه مع إسرائيل.

ولسنا في معرض مناقشة هذا التحالف وتاريخه وجوانبه، الغامض منها والمعروف والمستتر، ولكننا نركز على أهمية المقترح الروسي في ظل هذا الوضع. ولا شك أن ضم دول ذات نفوذ في المجتمع الدولي، مثل الهند وتركيا والصين، وربما إيران والسعودية ومصر، لا بد وأن يفرض على اللاعب الأميركي شروطا جديدة تتعلق بمصالحه مع هذه الدول، خاصة أن هذه الدول لها مصالح مباشرة في استقرار الأوضاع في الشرق الأوسط، بحكم تعاونها ومصالحها الاقتصادية مع دول المنطقة. بل إن انضمام هذه الدول لدائرة الوساطة الدولية، سيكون في الغالب رصيدا للجانب العربي، فليس خافيا على أحد مواقف هذه الدول المساندة لحقوق الشعب الفلسطيني في العودة وتقرير المصير، وحقه في بناء دولته المستقلة على أرضه، وأن يختار العاصمة التي يراها لهذه الدولة، هذه الحقوق التي ثبت أن واشنطن ليست متحمسة لها، وأن أقصى ما تسعى له هو التهدئة بين الطرفين ومظاهر الدبلوماسية التوافقية، وأيضا وقف الاستيطان، وشتان ما بين وقف الاستيطان الذي تريده واشنطن، ومنع الاستيطان الذي يريده العرب، فالحلول كلها عند واشنطن مؤقتة وليست حاسمة.

في نفس الوقت، ترتبط الدول التي ترى روسيا أهمية انضمامها للوساطة الدولية، بمصالح ليس فقط مع الولايات المتحدة، بل ولها علاقات ومصالح مع إسرائيل يمكن أن تكون قناة للحوار، وأيضا وسيلة للضغط على حكومة تل أبيب.

إلا أن هذا المقترح لا يجب أن يفتح الطريق أمام ما يطرحه البعض عن ضرورة البحث عن حلول بديلة لتسوية أزمة الشرق الأوسط وإلغاء ما هو قائم، لأن هذا الطرح يضر بمسيرة التسوية، ويفتح الباب للعودة بالأزمة إلى نقطة الصفر، أي لمرحلة إعلان دولة إسرائيل، مما سيؤدي لتفجير الوضع في الشرق الأوسط. كما أن هذا التوجه سيكون بمثابة شهادة وفاة للأمم المتحدة والمنظمات الدولية التي لعبت دورا أساسيا في التسوية السلمية، على مدار عشرات السنين.

الواقع أن المشروع الروسي يحتاج لدعم من الدول العربية نفسها قبل إسرائيل، فإذا كانت الدول العربية تسعى بجدية لتسوية الأزمة المتفجرة، يجب عليها أيضا أن تكسر الاحتكار الأميركي لمسيرة العملية السلمية. هذا الاحتكار الذي ثبت بالدليل القاطع أنه عاجز عن إخراج التسوية من مآزقها. ويجب على العرب أن يثقوا في روسيا كطرف أكثر موضوعية وحيادية في التعاطي مع أزمة الشرق الأوسط، التي تهدد بتفجير حرب ضارية في المنطقة، خاصة وأن روسيا لها علاقات متساوية وجيدة مع كافة الأطراف، بما فيها إسرائيل، كما أنها ليست صاحبة مصلحة خاصة ولا طرفا في أي نزاع في المنطقة.

 

Email