جدوى ومصير معاهدة ستارت الجديدة

ت + ت - الحجم الطبيعي

بدأ البرلمان الروسي مناقشة مشروع معاهدة تقليص الأسلحة الاستراتيجية الهجومية، بعد أن صادق عليها مجلس الشيوخ الأميركي، ووضع إضافات اعتبرها أعضاء المجلس، وخاصة الجمهوريين منهم، أساسية لقبول المعاهدة وبنودها. ولا شك أن هذه الإضافات أثارت تساؤلات حول مصير معاهدة ستارت الجديدة، وعن مدى فاعليتها وصلاحيتها، خاصة وأن تراجع معارضة الجمهوريين في مجلس الشيوخ الأميركي، ارتبط بهذه الإضافات وبوعود من إدارة الرئيس أوباما بتخصيص ميزانيات لتطوير الترسانة الأميركية العسكرية الاستراتيجية، وهذه كانت شروط الجمهوريين أصحاب الأقلية المؤثرة في المجلس، لتمرير هذه المعاهدة. وما يخص تخصيص ميزانيات لتطوير الترسانة العسكرية الأميركية، أمر لا يهم روسيا كثيرا، فهذا شأن أميركي داخلي بين الجمهوريين والديمقراطيين، وهو الثمن الذي يدفعه الديمقراطيون من أجل بقائهم في الحكم، وإن كان الشعب الأميركي في الحقيقة هو الذي يدفع هذا الثمن الباهظ، الذي يذهب في النهاية إلى خزائن أباطرة صناعة السلاح الأميركيين، الذين يعتبرون الجمهوريين ممثلين لمصالحهم في البيت الأبيض وفي الكونغرس. أما التعديلات التي أجراها الجمهوريون على المعاهدة، فهي تهم روسيا كثيرا، خاصة وأن المفاوضات حول المعاهدة قبل توقيعها من رئيسي الدولتين، كانت صعبة ومعقدة ومكتظة بنقاط الخلاف، وبالتالي فليس من السهل على روسيا أن تقبل تعديلات الجمهوريين، حتى لو كانت ثمنا لتمرير المعاهدة والتصديق عليها.

ويجب أن يكون واضحا أن معاهدة ستارت الجديدة لم تتوصل إلى تقليص كبير في الأسلحة الهجومية الاستراتيجية، إذ اتفق الجانبان على تقليص عدد وسائل حمل وإيصال الأسلحة النووية (الصواريخ والغواصات والقاذفات الإستراتيجية) إلى ‬800 وحدة ليس الآن بل بعد مرور‬7 سنوات على دخول المعاهدة المزمع توقيعها حيز التنفيذ، وتقليص عدد العبوات النووية المحمولة إلى ‬1550 وحدة. ما يشكل نحو ‬30 بالمائة من الترسانة النووية الأميركية، واقل من ذلك بالنسبة لترسانة الأسلحة الاستراتيجية الروسية.

لكن هذه الاتفاقية حملت معاني أكثر أهمية من مجرد تقليص الأسلحة الهجومية الاستراتيجية، لأنها جاءت بعد سنوات من التوتر والصراع بين واشنطن وموسكو، شنت فيها الولايات المتحدة حربين في العراق وأفغانستان، ومارست سياسات هددت أمن المجتمع الدولي. لذا جاءت هذه الاتفاقية لتكون محطة أساسية في بداية نهج جديد من جانب القوى النووية العظمى، في التعامل مع أمن المجتمع الدولي، وبداية لبناء الثقة بين هذه القوى، بهدف الانتقال فيما بعد لمرحلة تعاون أكثر جدية، لتنفيذ معاهدات ومواثيق الشرعية الدولية الخاصة بالحد من انتشار الأسلحة النووية ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل. ولكن، هل هذا كله يمكن أن يكون مبررا لتغاضي موسكو عن التعديلات التي أجراها الجمهوريون في واشنطن على المعادلة؟

لقد استأنف البرلمان الروسي (الدوما) مناقشة معاهدة ستارت الجديدة، بعد إضافات مجلس الشيوخ الأميركي، على ضوء هذه السياسة التي تشكل المخرج الوحيد ـ وفق قناعة روسيا ـ لحماية أمن واستقرار المجتمع الدولي، وإنهاء حالة التوتر والصدام في البؤر الساخنة. ما دفع بالبرلمانيين الروس إلى التصديق على المعاهدة في القراءة الأولى، ولكن هذا جاء برجاء وتوسل من الرئيس الروسي ميدفيديف إنقاذا للمعاهدة. لكن الأمور لا تتحقق بهذه البساطة، إذ إن واشنطن ما زالت تواصل خططها الخاصة بنشر درعها الصاروخي، ما يضع موسكو في موقف حرج، فمن جهة لا بد وأن تحث وتدفع القوى الدولية نحو مزيد من الالتزام بسياسة الحد من انتشار الأسلحة النووية، على أرضية اعتماد مبدأ الثقة المتبادلة، بدلا من سياسة الردع المتبادل التي تفترض اكتظاظ الترسانات العسكرية لهذه القوى بأحدث الأسلحة. ومن جهة أخرى فالقيادة الروسية لا بد وأن تأخذ بعين الاعتبار، في كافة خططها السياسية والاقتصادية، توفير أدوات وعناصر حماية الأمن القومي للبلاد ومصالح روسيا.

إن حل هذه المعادلة الصعبة، والتي يزيد الدرع الصاروخي من تعقيدها، يتطلب تسليح القوات الروسية بأحدث المعدات العسكرية، وتطوير قدراتها الدفاعية على مختلف المستويات، وفي كافة المجالات.

ويمكن القول إن أحد الحلول المطروحة يتمثل في تحديث أسلحة وحدات الجيش الروسي الدفاعية، ما جعل الكريملين يسعى بجدية لتطوير القدرات الدفاعية، والبدء في تزويد الجيش الروسي بصواريخ جديدة، تفوق سرعتها سرعة الصوت ودقيقة التصويب، وتتوفر لديها الإمكانية لتغيير اتجاهها أفقيا وعموديا، إضافة إلى استخدام الصواريخ التي تطلق من المنصات المتنقلة، وبالدبابات الحديثة وأسلحة الدفاع الجوي الجديدة. وسيتم خلال السنوات الخمس القادمة تحديث ‬45٪ من العتاد العسكري الحالي، حيث سيتم إمداد الجيش الروسي بـ‬50 صاروخا باليستيا جديدا من نوع «توبول-ام»، و‬50 قاذفة استراتيجية «تو-‬160» و«تو-‬95» و‬31 سفينة. ومن المتوقع أن تصل نفقات تسليح القوات الروسية خلال السنوات المقبلة إلى ‬146 مليار يورو. وبالقطع كل هذه الأشياء تضع علامات استفهام كثيرة حول جدوى المعاهدة، وقد تفرض على الرئيس الأميركي أوباما أعباء جديدة، وتصعب مهامه أمام ضغوط الجمهوريين الذين سيقولون له «انظر كيف تزيد روسيا من قوتها العسكرية»!

إن ضمان وحماية الأمن القومي الروسي أمر هام وحق لموسكو، لكنه بالتأكيد لا يشكل سبيلا لإنجاز المهمات الأكثر أهمية، وهي التعاون لتنفيذ معاهدات ومواثيق الشرعية الدولية، الخاصة بالحد من انتشار الأسلحة النووية ومنع أسلحة الدمار الشامل، ما يستوجب مزيدا من إبداء حسن النوايا، إلى جانب حث الجانب الأوروبي على العمل والتحرك لدى المؤسسات الحاكمة في الولايات المتحدة، للجم النزعات العسكرية، من خلال التعاون مع روسيا لصيانة السلم العالمي.

 

Email