موسكو وتغيير دفة السياسة الخارجية

ت + ت - الحجم الطبيعي

شهد العالم في بداية القرن الحادي والعشرين، حدثا كبيرا، غير مجرى التاريخ والموازين على الساحة الدولية، وهو الهجمات على نيويورك يوم الحادي عشر من سبتمبر عام ‬2001، هذه الهجمات التي انطلقت بعدها الحملة العسكرية الأميركية على ما سمي «الإرهاب الدولي»، وتعاطف الكثير من الدول مع الولايات المتحدة، وانضم البعض منها إلى حملتها العسكرية، سعيا منه للبقاء مع الجبهة الأقوى والمهيمنة في العالم، بينما انضم البعض الآخر اعتقادا منه بأن الهدف الحقيقي من الحملة هو القضاء على الإرهاب الذي يهدد العالم كله، بينما اكتفى البعض من الدول بإبداء مشاعر التعاطف والتأييد، دون المشاركة في أية أعمال عسكرية، ومن هذا البعض الأخير روسيا والصين والهند. هذه الدول الثلاث لم تشأ أن تخوض في نزاعات، لا تعرف بالضبط من هو العدو فيها وما هي أهدافها الرئيسية، خاصة بعد أن ظهرت جبهة معارضة للحرب في العراق داخل حلفاء واشنطن الأوروبيين الكبار، قادتها فرنسا وألمانيا وإسبانيا، لكن هذا لم يؤثر في الاستراتيجيات والمخططات الأميركية، التي استمرت في حملتها غير آبهة للاعتراضات من هنا أو هناك.

ولم تكد العمليات العسكرية تضع أوزارها وتفك رحالها في العراق استعدادا لتهدئة الأوضاع هناك، حتى اشتعلت الحرب في أفغانستان، التي اتفق الجميع على فشل السياسات العسكرية فيها منذ البداية. ولم يكن الوضع في أفغانستان سهلا بالنسبة للدول المحيطة والقريبة منها، التي استشعرت خطورة التصعيد هناك، وإمكانية تأثيره في أمن واستقرار الأوضاع بالقارة الآسيوية ككل.

ومن هنا جاء التقارب العسكري والسياسي الذي لم يكن أحد يتوقعه بين الثالوث الأكبر في القارة؛ روسيا والهند والصين. فعلى الرغم من أن الهند والصين هما أكبر مشتريين للسلاح الروسي، الذي يشكل أكثر من نصف تسليح جيشي العملاقين الآسيويين، إلا أنه لم يكن هناك حتى منتصف العقد المنصرم أي تنسيق أو تفاهم عسكري بين هذه البلدان الثلاثة، بل على العكس كانت الخلافات بينهما كثيرة، خاصة بين الهند والصين بسبب دعم الأخيرة لعدو الهند الدائم باكستان، بينما الخلافات بين روسيا والصين كانت وما زالت على الحدود الممتدة بينهما لآلاف الكيلومترات، إلى جانب موروث الخلافات الإيديولوجية بينهما في المنافسة على زعامة العالم الاشتراكي السابق. ورغم هذه الخلافات، إلا أن الخطر الجديد وتكثيف الوجود العسكري لحلف الناتو والولايات المتحدة في أفغانستان، دفع هذه الدول الثلاث إلى التقارب والتفاهم السياسي والعسكري، وشهد العام ‬2005 أول مناورات عسكرية مشتركة بين الصين وروسيا في إطار منظمة شنغهاي للتعاون، وتوالت بعدها مناورات مشابهة، كما شهد العقد المنصرم أيضا أول مناورات عسكرية مشتركة بين روسيا والهند، والتي تعددت في البر والبحر.

ودار الحديث في الأوساط الدولية حول احتمال تأسيس تحالف استراتيجي جديد بين موسكو وبكين ونيودلهي، خاصة مع تذبذب العلاقات بين واشنطن والهند من جهة، وواشنطن وبكين من جهة أخرى، وظهور بوادر خلافات جوهرية بين واشنطن والعملاقين الآسيويين في قضايا كثيرة، خاصة أثناء إدارة الرئيس بوش الابن في البيت الأبيض، الأمر الذي مهد الساحة الآسيوية لروسيا، في ظل رئاسة فلاديمير بوتين الذي أولى اهتماما كبيرا للهند وروسيا، هذا في الوقت الذي كانت العلاقات بين روسيا وإيران أفضل منها بكثير عما هي عليه الآن، وكان دعم ودفاع الكريملن في عهد بوتين عن إيران واضحاً للجميع ولا يقبل الجدل.

ومع مجيء الرئيس أوباما للبيت الأبيض ووصول الرئيس ميدفيديف للحكم في الكريملن، بدا أن هناك بعض التغييرات في التوجهات على الساحتين الإقليمية والدولية، على الرغم من أن الحملة العسكرية التي تقودها واشنطن والناتو في أفغانستان لم تتراجع، بل زادت حدتها بعد أوامر الرئيس أوباما بتوجيه المزيد من القوات والدعم المالي للحرب هناك.

ولكن التغييرات طرأت على العلاقات الأميركية ـ الروسية ذاتها، حيث بات واضحا أن روسيا أصبحت تحتل مكانة متقدمة في أجندة الرئيس أوباما الخارجية، وبدا أن بين الكريملن والبيت الأبيض مؤشرات تفاهم وتنسيق، انعكست بشكل واضع في توقيع اتفاقية الحد من التسلح النووي «ستارت ‬3» والتصديق عليها، كما بدا أكثر وضوحا في مشاركة قوات روسية مع قوات أميركية في عمليات ضد مزارع ومخازن المخدرات في أفغانستان. وبدأت التغييرات تنعكس على مواقف روسيا من حلفائها الآسيويين، حيث وافقت موسكو على عقوبات مشددة على إيران، بينما لم تجرِ أية مناورات عسكرية روسية مع الصين منذ وصول ميدفيديف للحكم، وفي نفس الوقت زاد اهتمام روسيا بالقارة الأوروبية بشكل واضح، كما تحسنت علاقات موسكو بحلف الناتو كثيرا بعد قمة لشبونة الأخيرة، بينما تراجع اهتمامها بأميركا اللاتينية والشرق الأوسط بعض الشيء، وإن كان اهتمام موسكو بالهند ظل كما هو، نظرا للموروث التاريخي بين البلدين.

ويبدأ العقد الثاني من القرن مع تساؤل مهم عن توجهات السياسة الخارجية الروسية، حيث يرى البعض أن توجهات الرئيس ميدفيديف تختلف كثيرا عن توجهات سلفه بوتين على الساحتين الإقليمية والدولية، الأمر الذي يتوقع معه الكثيرون تغييرا في توجهات دفة السياسة الخارجية الروسية قليلا، من الشرق والجنوب نحو الغرب، بينما يرى البعض أن موسكو لا تريد تكوين عداءات مع أحد، ولا تريد أن تخيف منها أحدا، وأنها ما زالت في مرحلة تحسين سمعتها الموروثة عن الحقبة السوفيتية والحرب الباردة.

 

 

Email