لغز الخلافات بين بريطانيا وروسيا

ت + ت - الحجم الطبيعي

العلاقات بين بريطانيا وروسيا تعتبر من الألغاز الصعبة والمعقدة على الساحة الدولية، ولا تكاد تحدث لقاءات بين كبار المسؤولين من البلدين ونسمع تصريحات دبلوماسية مطمئنة حول تحسن العلاقات، حتى تنفجر أزمة بين البلدين أو تقع حادثة، وتنهال الاتهامات المتبادلة من الجانبين. ومنذ أيام قليلة خرج علينا سيمون فريزر، الرئيس الجديد للسلك الدبلوماسي البريطاني، بتصريحات قال فيها «إن لندن تريد توسيع العلاقات مع روسيا، إلا أنها لا تنوي تغيير موقفها في القضايا الثنائية المثيرة للجدل، وبيننا سلسلة خلافات في القضايا الثنائية، وهي خلافات جدية، ونحن لا ننوي تغيير موقفنا المبدئي حيالها». ورغم هذا أكد فريزر أن ثمة مجموعة من المجالات الأخرى، التي يمكن لروسيا وبريطانيا أن تتعاونا من خلالها، بما في ذلك الاقتصاد والطاقة والقضايا الدولية.

حديث سيمون فريزر يوحي بأن بريطانيا لا تريد التراجع عن مواقفها، وتصر على الاستمرار في الخلافات مع روسيا، وفي نفس الوقت تريد أن تتعامل معها اقتصاديا! والخبراء بالعلاقات بين روسيا وبريطانيا يعلمون جيدا أن لندن تحتاج إلى الكثير من موسكو، خاصة في مجالات الطاقة، في حين أن روسيا لا تريد شيئا من بريطانيا سوى أن تكف عن افتعال المشاكل معها ومنح اللجوء على أراضيها للهاربين من القضاء الروسي، وليس أكثر من ذلك، وهو ما سبق أن صرح به رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين مؤخراً حين قال «نحن لا نريد منهم شيئا، هم الذين يريدون منا الكثير».

روسيا دائما تنتظر من بريطانيا خطوات ملموسة لتحسين العلاقات، وتسعى لهذا دائما، وقد بادر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بتوجيه دعوة لنظيره البريطاني وليام هيغ لزيارة موسكو في أكتوبر الماضي، ولبى هيغ الدعوة، والتقى به في موسكو الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف في الثالث عشر من أكتوبر. وقد أكد لافروف لنظيره البريطاني استعداد روسيا لإزالة عوامل الإزعاج الشديد في العلاقات مع بريطانيا، والتي بادرت الحكومة البريطانية السابقة إلى إثارتها، ولم تمض أيام على زيارة هيغ لروسيا حتى افتعلت لندن أزمة جديدة مع موسكو، حيث أمر هيغ في ديسمبر الماضي بطرد دبلوماسي روسي يعمل في السفارة الروسية في لندن بتهمة التجسس، وردت موسكو بالمثل فطردت دبلوماسيا بريطانيا، وما أكثر هذه الحوادث بين البلدين والتي تتكرر أكثر من مرة في العام الواحد.

وزير الخارجية الروسي لافروف يقول «لا نحتاج إلى إعادة تشغيل العلاقات مع البريطانيين من الجانب الروسي، نحن نرى وضعاً غير طبيعي في علاقاتنا، وهذا ليس نتيجة لشيء من جانبنا، لذا ننتظر تفسيرا من البريطانيين».

لقد سبق أن اتهمت لندن المخابرات الروسية باغتيال عميل مخابرات روسي منشق، كان يرقد في مستشفى للعلاج في لندن، وكشفت وثائق الدبلوماسية الأميركية التي نشرها موقع ويكيليكس مؤخرا، براءة موسكو من هذه التهمة باعتراف دبلوماسيين أميركيين قالوا إن المخابرات الروسية كانت قد حذرت المخابرات البريطانية، وأعطتها معلومات حول أشخاص روس في لندن معهم مواد مشعة ينوون قتل عميل المخابرات الروسي ليتفينينكو الراقد في المستشفى، وكانت المخابرات الروسية تخشى أن يكون الهدف من العملية إلصاق التهمة بها وتشويه سمعة روسيا، ومع هذا لم تعِر المخابرات البريطانية أي اهتمام للتحذير الروسي، وقتل ليتفينينكو بالفعل بمواد مشعة، وأشارت أصابع الاتهام في لندن نحو المخابرات الروسية دون أي تحقيق.

على جانب آخر، ورغم كل محاولات التقارب والتفاهم بين روسيا وحلف الناتو، إلا أن لندن ترفض دائما هذا التقارب وتسعى لإعاقته، رغم أنها تعلم جيدا أن الحلف هو الذي يحتاج إلى روسيا وليس العكس، ورغم هذا تفتعل المشاكل من قريب أو بعيد للحيلولة دون هذا التقارب. ومؤخرا في اجتماع الجمعية البرلمانية لحلف الناتو في وارسو، وبحضور روسيا لمناقشة مسائل التعاون بينها وبين الحلف في أفغانستان، فوجئ الحضور في الاجتماع بمندوب بريطانيا في الجمعية يتقدم بمشروع قرار يدين فيه روسيا، متهما إياها باحتلال أراضٍ تابعة لدولة مجاورة لها، والمقصود هنا أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية اللتان أعلنتا استقلالهما عن جورجيا، وأيدت موسكو استقلالهما، ولا أحد يدري ما الدافع وراء هذا لسلوك من الجانب البريطاني!

الحقيقة أنه من الصعب إيجاد تفسير لحالة العلاقات هذه بين روسيا وبريطانيا، كما أنه لا يمكن التغاضي عن هذا الوضع بحجة أن روسيا لا تريد من بريطانيا شيئاً وليست لها مصالح ملحة معها، فالواقع أن هذه السياسة البريطانية تجاه روسيا، تجد في بعض الأحيان دعماً من بعض الدول والجهات في أوقات معينة يزداد فيها التصعيد ضد روسيا، كما أن هذا المستوى المتردي من العلاقات يعطي بعض الأشخاص والجهات المناوئة لروسيا، الفرصة لإيجاد سند وملجأ سياسي لها في بريطانيا، وهذا ما يفعله كبار قادة الانفصاليين الشيشان، وأيضا قادة عصابات المافيا الروسية المتهمين بجرائم كبيرة في روسيا. وإذا كان هناك في واشنطن لوبي مناهض لروسيا، لكنه لا يستطيع إعاقة تطور العلاقات بين موسكو وواشنطن، فإن في لندن ما هو أقوى من لوبي، إنه النظام نفسه والحكومات المتتالية التي لا تبذل أي جهد ملموس لتحسين هذه العلاقات.

 

Email