انتهازية السياسة الغربية في الشرق

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما يحدث على الساحة في الشرق الأوسط وفي البلدان العربية من حراك سياسي، وردود الفعل العالمية عليه، وخاصة في أوروبا وواشنطن، يطرح تساؤلات عديدة حول مواقف الحكومات الغربية، وكيفية تعاملها مع هذه الأحداث، هذه الحكومات التي اعتادت أن تكيل المدح والإشادة للأنظمة الحاكمة وتصفها بالاعتدال، وتصف بلدانها بالاستقرار وسياساتها بالنجاح والقبول، وتصف مناخ الحريات لديها بأنه في أفضل المستويات.

ثم فجأة، وعندما تشتعل الأزمات داخل هذه الدول، تنقلب التصريحات الأوروبية والغربية من الأبيض إلى الأسود تماما، وتذهب تمارس أشد الضغوط على هذه الأنظمة، وتطالبها بإجراء إصلاحات عاجلة، وتتهمها بعدم احترام حرية الرأي وحقوق الإنسان، وتذهب تبحث وسط معارضي هذه الأنظمة عن وجوه تراهن عليها وتدعمها وتؤيدها، وبعض الحكومات الغربية، وخاصة في واشنطن، تمارس دورا أسوأ من ذلك، فترسل مبعوثيها السريين إلى كافة أطراف المعارضة في هذا البلد الساخن المشتعل، وتجري مع كل منهم حوارات واتفاقات منفردة، وكأنها تلعب بكل الأوراق ضد الأنظمة التي كانت تدعمها بالأمس القريب، والآن تطالبها بالرحيل العاجل من الحكم!

وهذا السيناريو الانتهازي يتكرر دائما في مناطق عديدة من العالم، وقد شاهدناه بوضوح في وسط آسيا؛ مع الرئيس إسلام كريموف في أوزبكستان عام ‬2005، عندما ثارت ضده المعارضة، وكان كريموف من أقرب الأنظمة لواشنطن بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وكانوا يعتبرونه في أوروبا الصديق الأول للاتحاد الأوروبي، ويدعونه شخصيا لحضور اجتماعات الاتحاد، رغم عدم وجود أية صلات بينه وبين الاتحاد الأوروبي، لكنهم في الغرب كانوا يعتبرونه نموذجا للاعتدال، لا لشيء سوى أنه لم يكن على وئام واتفاق مع موسكو. وعندما ثارت المعارضة ضده، فوجئ كريموف بواشنطن والغرب يدعمون المعارضة ويطالبون بالتحقيق معه في أعمال القمع للمعارضة. وهذا النموذج تكرر مع العديد من الأنظمة التي طالما منحت واشنطن والغرب كل ما يريدون، ولم يجدوا منهم إلا الجحود والنكران، منذ نظام الشاه في إيران، ونظام إدوارد شيفرنادزه في جورجيا، وعسكر أكايف في قرغيزيا، وغيرهم الكثير..

ومن الخطأ التصور أن واشنطن والغرب في هذه الأمور، يدعمون رغبات ومصالح الشعوب ومبادئ حقوق الإنسان، إنهم يعملون من أجل مصالحهم فقط، ولهذا نجدهم يتغاضون تماما عن كل ما تفعله المعارضة واحتجاجات الشعوب، من فوضى وتدمير وخراب وترويع واعتداء على باقي المواطنين الآمنين.

هذه السياسة يستخدمها الاتحاد لأوروبي وواشنطن أيضا، عندما يتصدون لحل نزاعات في أي منطقة في العالم، حيث نجدهم أبعد ما يكونون عن الحياد في النزاعات، ونجدهم يدعمون الطرف الذي يخدم مصالحهم، ولهذا لم نسمع قط عن أي نجاح لواشنطن والاتحاد الأوروبي في حل أي نزاع في العالم، بالوساطة بين أطرافه.

وها نحن الآن نشاهد ونتابع الاضطرابات التي تجتاح بعض الدول العربية في إفريقيا الشمالية، والتي جرفت الاتحاد الأوروبي بعيدا عن مسرح السياسة العالمية كلاعب سياسي دولي، وذلك نتيجة مواقفه الملتوية والعائمة، وغير المحددة في أغلب الأحيان.

ومن الواضح أن الاتحاد الأوروبي خلال الأعوام العشرة الماضية، فقد مكانته كلاعب أساسي على الساحة الدولية، وغرق في مشاكله الداخلية، وخاصة مع الدول ذات العضوية الجديدة، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الشرقي.

وقد شغلت إفريقيا الشمالية على مدى القرن الماضي، اهتماما بالغا من القارة الأوروبية، وزاد هذا الاهتمام بعد انتهاء الحقبة الاستعمارية، سعيا من الدول الأوروبية لبقاء دول هذه المنطقة في دائرة نفوذها وهيمنتها، وساعدتهم على ذلك بقايا تراث العلاقات التاريخية والثقافية مع شعوب بلدان شمال إفريقيا.

وسعيا من الاتحاد الأوروبي في العقد الأخير من القرن الماضي نحو بلدان هذه المنطقة، طرح في مطلع التسعينات مشروعا أطلق عليه «الاتحاد من أجل المتوسط»، وتطور المشروع بسرعة فائقة، وتأسس الاتحاد بالفعل من ‬43 دولة أوروبية ومطلة على البحر الأبيض المتوسط، وتصور الكثيرون أن هذا الاتحاد يشكل عملية توسيع للاتحاد الأوروبي، بينما تصور البعض الآخر أن الأوروبيين يسعون لاستعادة هيمنتهم على مستعمراتهم القديمة، بينما توقع آخرون أن الاتحاد له أهداف اقتصادية، وذهب غيرهم إلى أن الاتحاد كانت إسرائيل وراء تأسيسه، في محاولة منها لتطبيع علاقاتها مع الدول العربية المطلة على البحر المتوسط.

ومضى الوقت دون أن يكون لاتحاد المتوسط أية فاعلية أو نشاط، وكأنه جثة هامدة، ولم يتدخل هذا الاتحاد في أي مشكلة في الدول المطلة على البحر المتوسط. ومع اشتعال الأزمة المالية العالمية وانتشارها في أوروبا، وفشل الاتحاد ألأوروبي في مواجهة تداعياتها، اختفى الحديث تماما عن الاتحاد من أجل المتوسط!

الأكثر من ذلك أنه رغم وجود الاتحاد الأوروبي وأجهزته العتيدة، إلا أن الدول الأوروبية تتعامل مع دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط، فقط في إطار التوجهات الأميركية، ولم نسمع أو نر دولة أوروبية اتخذت قرارا في هذه المنطقة ترفضه واشنطن، أو يتناقض مع المصالح الأميركية. ومثال على ذلك عندما أعلنت واشنطن عن تحسن علاقاتها مع ليبيا وتوقفها عن مقاطعتها، سارعت الدول الأوروبية الواحدة تلو الأخرى لتتبع خطى واشنطن، وتوالت زيارات المسؤولين الأوروبيين لليبيا التي كانوا بالأمس يوجهون لها أشد الانتقادات.

درس تخلي الأوروبيين عن الحكام والأنظمة في الدول النامية في وقت الأزمات، يتكرر بين الحين والآخر، وسوف يأتي اليوم الذي تفقد فيه الدول الأوروبية مصداقيتها ومكانتها في العالم كله، نتيجة هذه السياسة الانتهازية.

كاتب روسي

Email