منطقتنا تواجه خطراً كبيراً

أهنّئ الشعب المصري الشقيق من كل قلبي على تحقيقه المستحيل، لكنني واقعي أيضاً. ثمة جوانب عدّة في هذه الثورة، قد تترتّب عنها تداعيات سلبية على المنطقة بكاملها. فأبعد من النشوة الحالية، بعد إطاحة قائد لم يكن في تماس مع هموم شعبه، ومعه رجالاته الرأسماليون الفاسدون، أخشى من أن الدرب أمامنا سيكون وعراً ومليئاً بالمطبّات.

فلنضع الرومانسية جانباً الآن. قد تنجح سلطة الشعب في إطاحة حكومة، لكن في معظم الأحيان لا تتبدّل أحوال هذا الشعب نحو الأفضل. ولعل كوبا بقيادة كاسترو خير مثال عن بلد أطيح فيه ديكتاتور، ليحلّ مكانه ديكتاتور آخر. وأظنّ أن عدداً كبيراً من الكوبيين يرغبون في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وآمل ألا يأتي يوم يتمنّى فيه المصريون الشيء نفسه.

لا تزال مصر تحتفل، لكنني أخشى أن كثراً لا يدركون المزالق التي تلوح في الأفق. فالإضرابات تحاصر البلاد، وتشير التقديرات إلى أن الاقتصاد سيخسر ‬300 مليون دولار أميركي يومياً، ناهيك عن هروب رساميل كبيرة تصل إلى المليارات بحسب بعض التقارير، ولا يمكن توقّع ما سيحدث عند استئناف البورصة عملها من جديد. قد يحلم المصريون بعودة المليارات التي يُقال إنها نُهِبت من البلاد بصورة منظَّمة وأودِعت في الخارج، لكن القول أسهل من الفعل.

لا يمكن لأي بلد على وجه الكرة الأرضية أن يزدهر في ظل سلطة الشعب وحدها؛ فحتى المتجر في زاوية الشارع يحتاج إلى من يديره. يحتجز الثوّار الآن حكّامهم العسكريين رهائن، بدلاً من منح المجلس الأعلى للقوات المسلّحة الوقت للوفاء بتعهّداته. وقد حذّروا من أنه إذا لم تتم تلبية مطالبهم وفقاً للجدول الزمني الذي وضعوه بأنفسهم، فسوف يدفعون بمصر نحو الجمود التام.

يمكن أن تصبّ تلك التهديدات في اتّجاهَين؛ فإما أن يصبح هناك ائتلاف فضفاض من المنظمات الشبابية غير المتمرِّسة، التي تشهر سيفاً مصلتاً على الرقاب حاكما للبلاد بفعل الأمر الواقع، وإما أن ينفد صبر الجيش فيتّخذ تدابير مشدّدة جداً قد تتسبّب في حمام دماء. لا يجوز أن تحتجز أي مجموعة قيادة البلاد رهينة لديها. الآن بعدما خرج مارد «سلطة الشعب» من القمقم، هل يستطيع أي قائد مستقبلي إعادته إليه من جديد؟

في غياب السلطة الفعلية، سوف يتزعزع الاستقرار في مصر بطريقة لا عودة عنها. وقد يكون إضعاف «أم الدنيا» جزءاً من مؤامرة يقودها المحافظون الجدد، للسماح لإسرائيل باستعادة السيطرة على منطقة سيناء الغنية بالنفط والغاز. دمّرت الأكاذيب العراق، وقُسِّم السودان إلى دولتَين، فهل مصر هي التالية على أن تعقبها بلدان عربية أخرى، مثل اليمن والجزائر والمغرب وسوريا والسعودية وبعض بلدان الخليج مثل البحرين، حيث يحاول البعض ركوب موجة الثورة المصرية؟

يُعتقَد أن السعودية وبلدان مجلس التعاون الخليجي الغنية بالنفط، حيث يتمتّع المواطنون بمستوى معيشي جيد، أقل هشاشة حيال تأثير الدومينو، لكنها ليست محصّنة ضد مثيري القلاقل. أنا معجب جداً بنظام الحكم الاتّحادي في الإمارات العربية المتحدة، الذي يتيح استقلالاً ذاتياً لكل إمارة ويحترم ولاءات الناس التقليدية لحكّام الإمارات السبع، وهو يعمل بسلاسة تامة. لكن يتعيّن على بعض البلدان العربية أن تسلك طريق التحديث، وتتيح مجالاً أكبر لشعوبها كي تعبّر عن رأيها، وتصغي إلى مظالم الناس العادلة. لا مكان للديناصورات الدكتاتورية في عالم اليوم.

الاعتقاد السائد هو أن الثورة المصرية كانت عفوية، لكن وائل غنيم وشركاءه في حركة «‬6 إبريل» أكّدوا أنه كان يجري التخطيط لها منذ وقت طويل، عبر استخدام تكتيكات تعلّموها من أوروبا الشرقية. يبدو وائل مبهورا بتأثير الشهرة التي حقّقها، إذ يقول إن جل ما يريده هو العودة إلى عمله. وينبغي على القنوات الفضائية شديدة الصخب التي تحرّكها أجندة معيّنة، أن تدعه يعود إلى عمله ويكفّ عن استثارة المشاعر لاستقطاب المشاهدين. أدرك أن نوايا أولئك الشبان كانت صادقة، لكن لا يسعني سوى أن أشكّ في أنهم سمحوا بسذاجة لقوى أجنبية بأن تتلاعب بهم، بهدف زرع الفوضى في المنطقة. لقد دعم البعض بقوة الثورة التي وصفوها خطأً بأنها «ثورة إسلامية»، وواشنطن تهتف لها، حتى فيما ترسو ثلاث بارجات حربية أميركية مليئة بالجنود قبالة الإسكندرية، وتضع إسرائيل جيشها في حالة تأهّب قصوى.

السؤال الأكبر المطروح هو؛ ماذا يحدث الآن على الجبهة السياسية في مصر؟

أنا متحمّس للمبادئ الديمقراطية، لكن من غير الواقعي أن نتوقّع ظهور ديمقراطية على الطريقة الغربية بين ليلة وضحاها، في بلد لم يختبرها قط، وحيث يتمتّع الجيش بقوّة مطلقة منذ ما يناهز الستين عاماً. تحتاج مصر إلى قبضة راسخة تمسك بدفة القيادة، إلى أن يحين الوقت الذي تصبح فيه ثقافتها قادرة على استيعاب القيم الديمقراطية. أي نظام ديمقراطي يجري إرساؤه الآن على عجل، سيكون زائفاً.

يتعيّن على مصر تأجيل الانتخابات النيابية، والتركيز على انتخاب رئيس تقدّمي علماني، يُفوَّض إليه تشكيل حكومة تضم شخصيات شعبية كاريزمية، قادرة على كبح «الإخوان المسلمين» الذين أعلنوا أنهم يستعدّون للتحوّل حزباً سياسياً. إذا انفجرت الدول العربية من الداخل مثل منزل من ورق بسبب العدوى التونسية ـ المصرية، فالمنتصر سيكون تل أبيب وواشنطن ومن على شاكلتهما، وكل من يستمدّ تأثيره في الشرق الأوسط من مبدأ «فرِّق تسد». ويتعاظم قلقي أكثر فأكثر لأن الشرق الأوسط هو محط أطماع بسبب موارده الطبيعية، كما أنه موئل للمصالح المذهبية المتنافسة وجواسيس وعملاء وكالات الاستخبارات الأجنبية (سي آي أيه والموساد.. وغيرها). ينبغي على قادتنا أن ينسّقوا في ما بينهم من أجل اتّخاذ خطوات حاسمة، لوقف هذه الزوبعة قبل أن تقضي علينا. إذا لم نصبح أسياد قدرنا، قريباً جداً سيسود الأشرار الحاقدون، الذين يتحيّنون الفرصة ليفرضوا أنفسهم أسياداً علينا. يا لها من مفارقة، فيما يطالب الناس في الساحات بالحرية، نحن أقرب ما يكون إلى الاستعباد!

الأكثر مشاركة