الشارع العربي والبحث عن عقد اجتماعي

ت + ت - الحجم الطبيعي

حالة غير طبيعية يشهدها العالم العربي هذه الأيام؛ صحوة لا مثيل لها بهدف تغيير الأوضاع والمطالبة بعقد اجتماعي يعطي لكل ذي حق حقه، ويحدد حقوق وواجبات كل طرف؛ الرئيس والمرؤوس. فبموجب العقد الاجتماعي يتخلى الأفراد في المجتمع عن سلطتهم وحقوقهم لصالح الحاكم، لكن بشرط أن يقوم الحاكم بدوره وواجباته على أحسن ما يرام، وأن يوفر الحرية والكرامة وحقوق الشعب الذي يفوضه للحكم. وإذا تهاون الحاكم في احترام العقد الاجتماعي الذي يربطه بالمحكومين، فمن حق أفراد المجتمع سحب الثقة منه.

ما حدث في تونس وفي مصر وقد يحدث في دول عربية أخرى، هو عدم احترام العقد الاجتماعي، الأمر الذي ترتب عنه خلل في المنظومة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في المجتمع. وأصبحت السلطات التي تنازل عنها أفراد المجتمع لصالح الحاكم، يُعبث بها وتستغل لصالح حفنة من الناس، على حساب الملايين منهم.

في الدولة العربية المعاصرة، نلاحظ عدة صور للخلل والضعف. فإذا أخذنا المثال التونسي، نلاحظ غياب المعارضة والأحزاب السياسية الفاعلة والقوية، وغياب المجتمع المدني والمنظومة الإعلامية التي تراقب وتستقصي وتكشف وتنتقد. في الأحداث الأخيرة نزلت الجماهير إلى الشارع للمطالبة بالتغيير، وللتعبير عن درجة عالية من اليأس والإحباط بعد صبر طويل. فالسلطة التنفيذية في تونس لم تجد القوى المضادة القادرة على وقفها عند حدها، ومراقبتها والكشف عن الأخطاء والتجاوزات العديدة التي ارتكبها الرئيس وحاشيته. وهنا نلاحظ أن العقد الاجتماعي تعرض إلى عدم احترام وإلى خيانة عظمى، بل أصبح وسيلة في يد الرئيس وحاشيته للحصول على أكبر قدر من المال والنفوذ والسلطة، بأي وسيلة وبأي ثمن وفي أقصر مدة زمنية ممكنة.

فالهدف من العقد الاجتماعي هو الحفاظ على الحرية والأمن وممتلكات الشعب، وكذلك الحفاظ على القيم الاجتماعية والنسيج الأخلاقي والسوق الحرة للأفكار. فالعقد الاجتماعي يقوم على رضا المحكوم بالحاكم، وهو ما يعطي الشرعية للسلطة في المجتمع ويضمن الحقوق والحريات الفردية للشعب، وهذا ما يؤدي إلى الوئام والتناغم الاجتماعي. والحالة العربية تحتاج إلى ثورة جذرية، لإعادة النظر في تفكير السلطة وطريقة تعاملها مع الفرد في المجتمع، وطريقة إدارتها للثروة في المجتمع وشؤون البلاد والعباد.

غضب الشارع العربي جاء بعد فشل الأحزاب السياسية والمعارضة والمجتمع المدني والقوى المضادة، في محاسبة الحاكم والوقوف أمامه لوضعه عند حده استنادا إلى التشريعات والقوانين المعمول بها. فالمجتمع المدني على سبيل المثال، هو الذي ينظم الشعب حتى يثور ويقوم بواجباته ويطالب بحقوقه. والمجتمع المدني هو الذي يضع التصور الأمثل لإعادة هيكلة السلطة والقوى المختلفة في المجتمع، لتحقيق المصلحة العامة. ما يلاحظ في أرض الواقع، هو تواطؤ معظم القوى في المجتمع مع السلطة التي أخلّت بالعقد الاجتماعي ولم تحترمه.

فالمعارضة لم ترق إلى المستوى المطلوب، حتى تراقب وتحاسب وتقدم الحلول والبدائل للخروج بالمجتمع إلى بر الأمان. أما الأحزاب السياسية، فرغم وجودها لعقود من الزمن، فإنها لم تأت بالجديد وبالتغيير، ولم تؤدّ دورها الاستراتيجي في المجتمع، ألا وهو التوعية السياسية والمساهمة السياسية الفعالة من أجل التصحيح والتغيير. أما بالنسبة للمنظومة الإعلامية فحدث ولا حرج، فالإعلام الذي من المفترض أن يقوم بصيانة العقد الاجتماعي والتأكد من احترامه من قبل الحاكم والمحكوم، نجده في يد السلطة يبجل ويمجد ويسبح ويمدح. والدليل على ذلك أن الإعلام التونسي والإعلام المصري خلال الأحداث الأخيرة، بقي يتفرج على الأحداث ولم يعرف ماذا يفعل وكيف يتصرف. والجميع يعلم أن الفضائيات الأجنبية وبعض الفضائيات العربية، إلى جانب الانترنيت والشبكات الاجتماعية، هي التي قامت بمهمة إيصال الحقائق إلى العالم. وهنا نلاحظ وجود خلل على مختلف الصعد، يؤدي إلى اغتصاب العقد الاجتماعي والتعدي عليه وعدم احترامه، لصالح الحاكم وعلى حساب المحكوم.

وحتى نكون واقعيين ولا نحلم كثيرا، دعونا نتساءل عن الآليات الضرورية واللازمة، والكفيلة بإعادة هيكلة القوى المختلفة في المجتمع وعلاقتها ببعضها البعض. فغضب الشارع والمظاهرات الجارفة التي شهدناها مؤخرا، لا تعني بالضرورة أن الأمور مستقبلا ستكون على أحسن ما يرام. فهناك «رُكاب الموجة» وهناك الانتهازيون وهناك من يغيّر هويته بين عشية وضحاها... الخ. فالثورة بدون فكر ونظرية ورؤية واستراتيجية، لا تحقق أحلام الجماهير والفقراء والمساكين. والتاريخ شاهد على هذا الكلام. فثورة ‬5 أكتوبر ‬1988 في الجزائر لم تحقق آمال وطموحات الشعب الجزائري، رغم أنها أدت إلى استقالة الرئيس الشاذلي بن جديد، وتعديل الدستور وإقرار التعددية الحزبية، وكذلك السماح بإصدار الصحف المستقلة. وبعد عشرية سوداء راح ضحيتها أكثر من ‬200 ألف شخص، ما زال العقد الاجتماعي في الجزائر يعاني الاختراق والاغتصاب وعدم الاحترام. فثورة أكتوبر فشلت في إعادة هيكلة وتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم وبين القوى المختلفة في المجتمع، وعجزت عن إفراز أحزاب سياسية قوية ومجتمع مدني فعال. فالفساد المالي بقي متفشيا، وتبذير المال العام زاد انتشارا، وضعف المعارضة فرض نفسه في المجتمع. أما الأحزاب السياسية رغم كثرتها، فإنها لم ترق إلى مستوى الفعل والتأثير في الحياة السياسية للمجتمع. وحتى الصحف المستقلة والتي تدعي أنها حرة، لم تستطع أن توفر السوق الحرة للأفكار، أو أن تخلق منبرا للحوار وللرأي والرأي الآخر والنقد البناء والاستقصاء وكشف المستور.

ففي غياب المجتمع المدني والمعارضة والأحزاب السياسية الفاعلة، قامت الشعوب بواجبها وثارت وتظاهرت، وزعزعت أباطرة الظلم والطغيان والاستبداد، وهذا شيء يبشر بالخير ويعبر عن وعي شعبي وإرادة شعبية مسؤولة وواعية. لكن السؤال الذي يفرض نفسه، هل هذا كافٍ؟ وهل تغيير رموز النظام يعني بالضرورة الخروج من دروب الظلم والاستغلال والاستبداد والفساد؟

الخوف كل الخوف أن تكون هذه المظاهرات والثورات تعبيرا عارما عن الغضب والاستياء، وأن تفقد عنفوانها وقوتها بمرور الزمن، وأن تكون مجرد سحابة تمر وتنتهي. فالعقد الاجتماعي الذي يبحث عنه الشارع العربي اليوم، والذي نظّر له جان جاك روسو وفلاسفة التنوير في أوروبا، والذي تبنته الدول الأوروبية واعتمدته بعد ثورات عديدة، ليس سهل المنال، حيث أنه بحاجة إلى تغيير في الدهنيات والأفكار، وتغيير جذري في الآليات التي تحكم علاقة السلطة بالشعب وبقوى المجتمع المختلفة.

فالفرد في المجتمع عندما يتنازل عن حقوقه للسلطة بموجب العقد الاجتماعي، فهو في حقيقة الأمر كلف هذه السلطة بحمايته وبضمان أمنه وحرياته المدنية والفردية، وبضمان كرامته وشرفه وإنسانيته، وليس إهانته واستغلاله واستعباده.

Email