واشنطن ونشر الديمقراطية في روسيا

رغم المناخ الودي للعلاقات بين موسكو وواشنطن منذ تولي الرئيس الأميركي باراك أوباما الحكم، إلا أن نشاط كلا البلدين ضد بعضهما ازداد بشكل ملحوظ خلال العامين الماضيين، حيث زادت عمليات كشف الجواسيس وتبادلهم، خاصة في العام الماضي ‬2010، كما زادت اتهامات كل منهما للآخر بالتدخل في الشؤون الداخلية للآخر، حيث أعلنت وزارة الخارجية الأميركية منذ أيام قليلة، عن رصد مبلغ نحو سبعين مليون دولار سنويا للإنفاق على نشر الديمقراطية في روسيا. ويتم توزيع هذا المبلغ على عدة أشخاص ومنظمات داخل روسيا، وبالطبع ليس بدون مقابل، حيث يقوم هؤلاء الأشخاص والمنظمات بحملات في وسائل الإعلام المحلية لتشويه سمعة روسيا، وسمعة النظام الحاكم في الكريملين، واتهامه بعدم الديمقراطية وخرق حقوق الإنسان..

وقد بدأت واشنطن هذا الأسلوب من المعاملة مع روسيا، منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وحتى الآن، وتقدر جملة نفقات واشنطن على «نشر الديمقراطية» في روسيا طيلة العقدين الماضيين، بأكثر من ثلاثة مليارات من الدولارات، وذلك بمعدل نحو مائة مليون دولار سنويا. وتعد فترة حكم الرئيس الروسي السابق فلاديمير بوتين (رئيس الوزراء الحالي) من عام ‬2000 حتى عام ‬2008، أكثر الفترات إنفاقا من قبل واشنطن على دعم ونشر الديمقراطية في روسيا، لكنها في نفس الوقت أقلها إنتاجا، حيث استخدم بوتين أسلوب القوة والتهديد، مع من يتلقون أي دعم مادي من أية جهة أجنبية لممارسة نشاط سياسي داخل روسيا، محذرا من توجيه اتهامات لهم بالعمالة لجهات أجنبية. هذا على الرغم من أن هذه الأموال تأتي من واشنطن بشكل علني، ويقال إن الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين كان على علم تام بها، وأنه أجازها بهدف تعليم الشعب الروسي أصول الديمقراطية، إلا أن البعض من المقربين للكريملين يقولون إن يلتسين نفسه كانت له حصة من هذه الأموال سنويا.

الأشخاص والجهات التي تصلها الأموال الأميركية في روسيا، هي كما هي لم تتغير من عهد يلتسين حتى الآن، بل هم نفس الأشخاص من دعاة «الديمقراطية الجديدة في روسيا»، هؤلاء الذين اتهمهم الشعب الروسي بالفساد في عهد الرئيس يلتسين، وحاكم نظام الرئيس بوتين بعضهم، بينما فر البعض الآخر خارج البلاد.

إدارة الرئيس أوباما تدعي أن روسيا شريك أساسي للولايات المتحدة الأميركية في نشر السلام ومكافحة الإرهاب في العالم، ولكن داخل الولايات المتحدة، وحتى داخل الإدارة الأميركية، هناك من يتعامل مع روسيا بمنطق الحرب الباردة، ويعتبرها منافسا وخصما قويا يجب إضعافه وتفتيته من الداخل. وقد كشفت وثائق «ويكيليكس» التي ظهرت مؤخرا، عن العديد من المؤامرات والخطط التي تدبر في واشنطن وداخل أروقة الحكومة الأميركية ضد روسيا، ومعظم هذه الخطط تعتمد على دول مجاورة لروسيا من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، مثل جورجيا وأوكرانيا وجمهوريات البلطيق الثلاث (أستونيا ولاتفيا وليتوانيا)، كما كشفت هذه الوثائق عن خطط أميركية لدعم بعض العناصر والجهات داخل روسيا، لزرع الخلافات والوقيعة بين قطبي الحكم في روسيا، الرئيس ديمتري ميدفيديف، ورئيس الوزراء بوتين، مستغلين التباين والخلاف الظاهر بين الاثنين في التعامل مع قضايا الحريات والديمقراطية، حيث يبدي الرئيس ميدفيديف دعما واضحا لهذه القضايا، بينما يبدي رئيس الوزراء بوتين تشددا وسخرية بمفاهيم الديمقراطية الغربية، حتى إن بوتين يتهم الولايات المتحدة نفسها بانعدام الديمقراطية الحقيقية داخلها، وبأنها تصدر للشعوب الأخرى سلعة زائفة لا تملكها هي.

اهتمام واشنطن بعملية نشر ودعم الديمقراطية في روسيا، تزداد حدته مع اقتراب انتخابات الرئاسة في روسيا في العام القادم، على الرغم من أنه لا أحد يعلم حتى الآن من سيترشح للرئاسة في روسيا، بوتين أم ميديفيف أم ربما شخص ثالث كما يتوقع البعض! وأيا كان فإن هذه الانتخابات تلقى اهتماما كبيرا من الغرب وواشنطن، خاصة وأن الرئيس القادم سيحكم لمدة ست سنوات حسب التعديل الدستوري الجديد الذي أجراه الرئيس ميدفيديف ووافق عليه البرلمان.

الخارجية الأميركية لم تخف الزيادة المقررة في الميزانية المخصصة لدعم الديمقراطية في روسيا، والتي أعلن عنها في أواخر فبراير المنصرم، ويرى البعض أن هذه الزيادة تقررت في الأيام الأخيرة مع تصاعد الأحداث والثورات الشعبية في الشرق الأوسط، وظهور تداعيات واضحة لها في بلدان أخرى خارج المنطقة، مثل الصين ودول وسط آسيا. ويرى البعض أن الدوائر الأميركية المناهضة لروسيا، يداعبها الأمل في وقوع مثل هذه الثورات الشعبية في روسيا. وحتى إن كان من الصعب حدوث هذا الأمر في موسكو ومدن روسيا الكبيرة، حيث يحظى نظام بوتين وميدفيديف بشعبية كبيرة، فليس من المستبعد إشعال هذه الثورات في منطقة شمال القوقاز، التي يسكنها أكثر من عشرة في المائة من مواطني روسيا الاتحادية وتعاني من اضطرابات وتوترات أمنية مستمرة، كما تعاني من مشاكل اقتصادية واجتماعية متفاقمة تفوق كاهل الميزانية الروسية في الوقت الحاضر.

كاتب روسي

الأكثر مشاركة