مجموعة «بريكس» عملاق يخيف الغرب

ت + ت - الحجم الطبيعي

في الوقت الذي تتفشى فيه الخلافات والانقسامات والصراعات بين الدول الصناعية الكبرى التي سادت العالم طيلة عقود طويلة مضت، هناك على الجانب الآخر تنهض قوة عالمية جديدة تحت اسم مجموعة «بريكس»، لتشكل ثقلاً عالمياً كبيراً يستشعر إزاءه الكبار القدامى الخوف والقلق الشديد. هذه المجموعة التي كانت بالأمس القريب تحمل اسم «بريك»، وتضم روسيا والصين والهند والبرازيل، وأضيفت لها مؤخراً جنوب إفريقيا ليزداد اسمها حرفاً آخر وتصبح «بريكس»، والتي عقدت قمتها الأسبوع الماضي في جزيرة هينان الصينية بحضور زعماء الدول الخمس الأعضاء فيها، بينما السبع الكبار الآخرون غارقون في أزماتهم الاقتصادية وخلافاتهم السياسية والعسكرية، داخل منظمتهم «حلف الناتو»، حول المستنقع الجديد (ليبيا) الذي أوحلوا أنفسهم فيه، باستثناء اليابان الغارقة في كوارثها الطبيعية تنتظر مساعدات الآخرين.

ظهرت تسمية «بريك» في نوفمبر ‬2001، حين عبر كبير اقتصاديي البنك الاستثماري الأميركي (غولدمان ساكس) جيم أونيل لأول مرة، عن رأيه بأن اقتصاديات البرازيل وروسيا والهند والصين سوف تتفوق نحو سنة ‬2050، من حيث حجمها، على اقتصاديات الدول الكبرى السبع. وبعد سبع سنوات فقط اندلعت الأزمة المالية العالمية التي أكدت افتراض الخبير، فقد تغلبت بلدان «بريك» على الركود وأصبحت تنمو بسرعة، مما أعطى جميع المحللين مسوغات للافتراض بأن النظام المالي العالمي سوف يتحول قريباً. وأصبح البعض يتنبأ بزعامة «بريك» العالمية نحو سنة ‬2030.

وجدير بالذكر أن هذه الدول الأربع (الصين وروسيا والهند والبرازيل)، بالإضافة للدولة الخامسة جنوب إفريقيا، هي دول كبيرة ومهمة في العالم، من حيث عدد السكان الذي يقترب من نصف عدد سكان الأرض، ومساحة الأراضي الواسعة، والثروات الطبيعية الهائلة، والطاقة الإنتاجية الجبارة. وكذلك هي دول كبرى صاعدة ومهمة في وقتنا الحاضر، الذي يمر فيه العالم بمرحلة الخروج من حقبة هيمنة القطب الأوحد التي بدأت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي، ولم تكد مرحلة القطب الواحد تختتم عقدها الثاني حتى ضربت الولايات المتحدة أزمة مالية كبيرة، ما زالت مستمرة لعامها الثالث وسوف تكون لها ـ حسب تقديرات الخبراء ـ آثار بالغة السوء على الاقتصاد الأميركي والعالمي أيضاً. وفي الوقت الذي تمتد فيه تداعيات الأزمة المالية العالمية إلى مختلف دول العالم، نجدها تضرب في الصميم اقتصاديات الدول الأوروبية قبل غيرها، باعتبارها الأقرب والأكثر ارتباطاً وتعاملاً مع الأسواق المالية والبورصات في الولايات المتحدة الأميركية.

وفي هذا المناخ العالمي تأتي مجموعة «بريكس»، مع النمو السريع لاقتصادياتها وإنتاجها البالغ ‬15 ٪ من إجمالي الإنتاج العالمي، وقد تجاوزت نسبة مساهماتها الإجمالية ‬50 ٪ في سياق النمو الاقتصادي العالمي، لتشكل خطراً كبيراً على اقتصاديات ومكانة الدول الصناعية الكبرى، وتهدد هيمنة الغرب على الساحة الدولية.

مجموعة «بريكس» تختلف بشكل كبير عن باقي أشكال التجمعات والتحالفات والمنظمات التي شهدتها الساحة الدولية من قبل، حيث لا يوجد رابط معين مشترك بين الدول الخمس، سواء سياسي أو اقتصادي أو ثقافي أو غيره، كما أنها لا يربطها نطاق جغرافي أو إقليمي، بل تأتي من أربع قارات مختلفة، كما أن هناك تبايناً واضحاً في درجات نموها الاقتصادي ومستوياتها الإنتاجية، وحتى المواقف السياسية بينها متباينة بشكل نسبي، لكن هذه الدول الخمس بينها رابط مشترك ثقافي هام، وهو أنها لا تنتمي إلى «دائرة الحضارة الغربية»، وهذا يعني عدم تأثر ثقافة هذه الدول بمفاهيم الأطماع الاستعمارية والطموحات الإمبريالية الغربية، كما أن هذه الدول تشكل مزيجاً متميزاً من حضارات مختلفة، حيث قمة الحضارة الشرقية في الهند والصين أصحاب التاريخ الضارب في القدم، والحضارة المتميزة عن الشرق والغرب معاً في روسيا، والحضارة اللاتينية في البرازيل التي يتميز شعبها بثقافة وفنون متميزة كثيرا حتى عن الدول المحيطة بها، والحضارة الإفريقية الممزوجة بدماء الرق والعبودية والتفرقة العنصرية في جنوب إفريقيا. وهذا التباين والاختلاف في الدول الخمس، يبشر بأن تطور الحضارة البشرية يميل أكثر إلى التعددية، والعالم بطبيعته أيضا يميل للتعددية القطبية.

وتعد هذه القمة هي الثالثة لهذه المجموعة بعد قمتيها السابقتين في روسيا والبرازيل. وبالنظر للدول الخمس، نلاحظ أنها رغم تباين مستوياتها وإمكانياتها، إلا أن لدى كل منها ما يعوضه في النقص عن الآخر. فهذه روسيا التي تعتبر الأقل في النمو الاقتصادي بالمقارنة بالأربعة الآخرين، نجدها هي الأقوى سياسياً وعسكرياً ونفوذاً في العالم، ولهذا يرى الكثيرون أن روسيا هي رأس هذه المجموعة والصين جسدها والباقون أطرافها، بل أكثر من ذلك، يذهب البعض في واشنطن والغرب، إلى الاعتقاد بأن روسيا هي التي تهيمن على هذه المجموعة وتوجهها حسب مصالحها وطموحاتها وتطلعاتها على الساحة الدولية. وهذه بالقطع أوهام لا تمت للواقع بصلة، وهي من موروثات الحرب الباردة، وربما انضمام جنوب إفريقيا لهذه المجموعة مؤخرا، يؤكد بطلان هذه الاعتقادات والأوهام، باعتبار أن جنوب إفريقيا دولة مرتبطة بالغرب تماماً في توجهاتها السياسية، وقد أيدت التحالف الغربي في ليبيا، بينما امتنعت الدول الأربع الأخرى عن التصويت على قرار مجلس الأمن.

لكن من المؤكد أن الرابط السياسي الذي يربط هذه الدول الخمس، والذي على أساسه نشأت هذه المجموعة، هو رفض الهيمنة الغربية على الاقتصاد والسياسة العالمية، هذه الهيمنة التي تسببت في إغراق الاقتصاد العالمي في أزمات يعاني الكثير من أجل الخروج منها.

 

 

Email