الأمن الأوروبي بين موسكو وواشنطن

ت + ت - الحجم الطبيعي

 عاد سؤال أمن القارة الأوروبية للتصعيد مرة أخرى بين موسكو وواشنطن، مع عودة الحديث عن تصميم واشنطن على نشر منظومة الدرع الصاروخية الدفاعية الخاصة بها في أوروبا، وهو ما يعني أن ربيع الود والصداقة بين الكرملين والبيت الأبيض قد أوشك على الانتهاء، وهو الأمر المتوقع مع اقتراب موعد انتخابات الرئاسة في البلدين، وأيضا مع تصاعد الأحداث في منطقة الشرق الأوسط والتي ولدت خلافات جديدة بينهما.

وفي مقابلة صحفية الأسبوع الماضي، أكد الرئيس الروسي دميتري ميدفيديف أن روسيا ستضطر إلى إنماء قوتها النووية، إذا رفض حلف شمال الأطلسي أن يعمل بصورة مشتركة مع روسيا على إنشاء منظومة دفاعية تحمي أوروبا، واصفا ذلك بـ«السيناريو السيئ» الذي سيُعيد البلدين إلى زمن الحرب الباردة.

وأضاف ميدفيديف أن رفض منظومة دفاعية صاروخية مشتركة بين الناتو وروسيا، ستعقبه جولة جديدة من سباق التسلح، وقال «إن الولايات المتحدة الأميركية لم تقدم إيضاحات حول الهدف من إقامة نظام دفاعي صاروخي أميركي في أوروبا إلى روسيا حتى الآن، ويحاولون إقناعنا بأن إيران هي السبب، رغم علم الجميع أن إيران لا تملك الصواريخ التي تهدد أوروبا، ولا توجد بين طهران ودول أوروبا أية خلافات يمكن أن تؤدي لصدام مسلح بينهما. ويؤكد ميدفيديف أن روسيا على يقين تام بأن منظومة الدفاع الصاروخية الأميركية تستهدفها هي دون غيرها، وإلا «لماذا ترفض واشنطن تعاون روسيا معها في هذه المنظومة؟».

من المستبعد تماما أن تكون لدى واشنطن أو حلف الناتو أية نية لتصعيد الأمور مع روسيا إلى حد الصدام المسلح، هذا أمر مفهوم ومعروف للجميع، ولكن هذه ليست القضية ولا هي جوهر الخلاف، بل القضية الأساسية هي مسألة «الأمن الأوروبي» الذي تسعى روسيا لأن يكون لها دور كبير وفعال فيه، بينما واشنطن لا ترغب في ذلك، وتخشى أن تؤثر مشاركة روسيا في منظومة الأمن الأوروبي على مكانتها وتمهد في المستقبل لاستبعادها من أوروبا.

مشاركة روسيا في الأمن الأوروبي لم تأتِ بمبادرة من موسكو، بل أتت بدعوة من الأوروبيين أنفسهم في عام 2007، ولم تقبل موسكو الدعوة مباشرة، بل وضعت شروطها للمشاركة في صياغة معاهدة أمن مشترك جديدة في أوروبا، وتجمدت الحوارات حول هذه المعاهدة بعد الحرب في القوقاز في أغسطس عام 2008 بين روسيا وجورجيا، ثم عادت الحوارات بعد ذلك.

لكن موسكو لم تتراجع عن شروطها، وصرح الرئيس الروسي ميدفيديف آنذاك قائلا «يتعين على كافة بلدان أوروبا قبل الجلوس معنا لإعداد معاهدة الأمن الأوروبي العام، أن يمتنعوا عن اتخاذ أية مواقف أحادية مع أطراف أخرى تهدد الأمن الأوروبي»، وأضاف: «إذا كنا نعيش في بيت واحد فلنلتق ونتفق ولا ندع غيرنا يقرر لنا أمننا». وبدا واضحا أن روسيا تسعى لاستبعاد الولايات المتحدة الأميركية من قضية الأمن الأوروبي، كما بدا واضحا أن أطرافا أوروبية تؤيد هذا التوجه، فقد صرح الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي قائلا «إن الاتحاد الأوروبي وروسيا قررتا وضع حجر الأساس لمنظومة أمنية أوروبية جديدة وهذه القضية تحتل الأولوية بالنسبة لنا، ولا مانع لدينا من مشاركة واشنطن في المناقشات».

تصريح ساركوزي أثار جدلا كثيرا حول تفسيره، إذ رأى الكثيرون أنه تعامل مع الولايات المتحدة كطرف ثالث لا شأن له بالأمن الأوروبي، وبدا واضحا أن كلا من إيطاليا وألمانيا وإسبانيا ودول أخرى، يؤيدون هذا التوجه.

لقد أدرك الأوروبيون جيدا أنه لا مجال لحسم قضية الأمن الأوروبي إلا بحسم الخيار لديهم بين موسكو وواشنطن، وأنه لا يمكن الجمع بين الاثنين على طاولة واحدة لمناقشة هذه القضية، وأن عليهم الاختيار بين الشراكة مع روسيا الدولة الأوروبية الكبيرة بقوتها العسكرية المتنامية بشكل واضح، والتي أصبحت تربطها بأوروبا مصالح اقتصادية حيوية، خاصة في مصادر الطاقة، وبين الصديق الأميركي القديم عبر الأطلسي، والذي لا تهمه إلا مصالحه وهيمنته على الساحة، ويسعى لعسكرة القارة الأوروبية لأهداف خاصة لديه.

لقد حدد الرئيس الروسي ميدفيديف مبادئ يجب أن تقوم عليها معاهدة الأمن الأوروبي الجديدة، والحقيقة أنها أقرب للشروط منها للمبادئ، ومن أهمها مبدأ يقول «ليس لأي دولة أيا كانت قوتها وحجمها، امتياز خاص للانفراد بقضية الأمن والسلام في أوروبا».

لقد بدا واضحا أن الشروط أو المبادئ الروسية تستهدف في الأساس واشنطن، لتهميش دورها في الأمن الأوروبي، وبدا واضحا أيضا أن دولا أوروبية كثيرة تؤيد هذا الأمر، وعلى ما يبدو أن الثورات والاضطرابات الدائرة في الشرق الأوسط سوف تزيد حدة الخلافات بين واشنطن والأوروبيين، بسبب التباين الكبير في مصالح الطرفين في المنطقة، الأمر الذي تسعى موسكو لاستغلاله والاستفادة منه في تمرير مشاريعها، وعلى رأسها المشاركة الفعالة في منظومة الأمن الأوروبي الجديدة، هذه المشاركة التي ستكون بالقطع على حساب الوجود الأميركي في القارة العجوز.

Email