قد يبدو الموقف الروسي من الثورات الشعبية في البلدان العربية، منذ بدايتها في تونس حتى الآن، وكأنه موقف متذبذب ومتأرجح يمنة ويسرة، لكنه في النهاية لا يختلف كثيراً عن مواقف دول الغرب والولايات المتحدة الأميركية، من ناحية الاستجابة للأحداث وسرعة التعامل معها، وإن اختلف كلياً في الأهداف والأساليب.

. وهذا أمر طبيعي، نظراً لاختلاف المصالح وتوجهات السياسات الخارجية، والمبادئ التي تقيم عليها هذه الدول علاقاتها الخارجية مع الدول الأخرى. ففي الوقت الذي لا تتوانى فيه واشنطن ولندن وباريس عن التدخل المباشر في الشؤون الداخلية للدول، نرى روسيا ترفض ذلك تماماً وتحذر منه، وتعتبره خللاً كبيراً في النظام الدولي.

ومع بداية الثورات الشعبية في تونس ومصر، لاحظنا تشابهاً كبيراً إلى حد التطابق في مواقف الدول الكبيرة جميعها، بما فيها روسيا، وربما يرجع ذلك لعنصر المفاجأة في الأحداث ونتائجها المذهلة بسرعة سقوط نظامين كانا يعدان من أقوى الأنظمة الحاكمة في المنطقة، خاصة النظام المصري. وباستثناء المطالبات الدولية الخارجية بعدم استخدام القوة المفرطة في التعامل مع الحشود الجماهيرية في البلدين، لم تكن هناك مطالب مباشرة من النظامين الحاكمين في تونس ومصر.

. فقط عندما زادت حدة الحشود في الميادين المصرية وبدت واضحة أزمة النظام، سارع الغرب بزعامة واشنطن لركوب موجة الجماهير ومطالبة النظام بالتنحي، أما روسيا فقد التزمت الصمت معتبرة أن أية نتائج ستأتي بها الأحداث، لن تغير شيئاً في واقع علاقاتها بالدولتين على المدى القريب، وبالتالي لا داعي للسعي لتأييد طرف ضد طرف، أو لدعم موقف النظام ضد الجماهير أو العكس.

وعندما اشتعلت الأحداث في ليبيا، وقع الجميع في خطأ تصور تكرار سيناريو تونس ومصر وبنفس السرعة، وكانت فرنسا أكثر المتسرعين المتحمسين لاتخاذ المبادرة، بينما بدت واشنطن مترددة بعض الشيء أكثر من رفاقها الأوربيين، حيث إن الساحة الليبية تعتبر غامضة بالنسبة للاستراتيجية الأميركية، وتستدعي بعض الوقت لتفهم خفاياها.

أما روسيا التي لديها خلفية جيدة عن الأوضاع داخل ليبيا بحكم العلاقات القوية نسبياً معها، فقد ارتأت في البداية إمساك العصا من النصف، فساعدت على تمرير قرار مجلس الأمن الدولي بامتناعها عن التصويت عليه، ثم انهالت بعد ذلك، من أول يوم لتنفيذ هذا القرار، بالنقد والاتهامات للناتو والغربيين بتجاوز حدود القرار، .

ومارست موسكو لعبتها الثنائية الشهيرة التي اعتاد عليها العالم خلال الأعوام الثلاثة الماضية، حيث اتخذ الرئيس الروسي ميدفيديف موقفاً قريباً من الموقف الغربي، بينما اتخذ رئيس الوزراء بوتين موقف الضد تماماً، متهماً الناتو والأوروبيين بشن حرب «صليبية» على ليبيا، الوصف الذي اعترض عليه الرئيس ميدفيديف.

وترك الاثنان الحرية للآخرين في التعامل مع أي من الموقفين، إما موقف الرئيس الشاب الليبرالي ميدفيديف، وإما موقف «الكاردينال القوي» رئيس الحكومة بوتين. ومع تطور الأوضاع وتأزمها في ليبيا تقارب الموقفان وتطابقا، وها هي روسيا تحاول القيام بجهود وساطة لحسم النزاع في ليبيا بشكل سلمي.

وفي اليمن لم يختلف موقف روسيا عن موقف الآخرين في الغرب، في التزام الحياد والصمت تجاه ما يحدث هناك، وذلك يرجع لتدخل دول الخليج العربية بقيادة المملكة العربية السعودية للقيام بدور الوساطة هناك، الأمر الذي امتنع معه الجميع عن التدخل في اليمن مراعاة للموقف الخليجي.

أما في سوريا فإن الأمر بالنسبة لروسيا يختلف كثيراً عن الحالات السابقة، حيث يمس الموقف هناك مصالحها المباشرة، ليس في سوريا وحدها، بل في منطقة الشرق الأوسط كلها. ولهذا لم تتح الفرصة لروسيا لممارسة لعبتها الثنائية بين الرئيس ورئيس الوزراء،.

ولم تستطع موسكو أن تلتزم الحياد هناك، بل فرض الأمر عليها أن تكون صريحة وواضحة وحاسمة في موقفها المؤيد للنظام السوري. وهذا ما بدا واضحاً في تصريحات الرئيس الروسي ميدفيديف الأخيرة، التي قال فيها متحدثاً عن نفسه «لن أسمح ولن أؤيد أي قرار ضد سوريا شبيه بالقرارين ضد ليبيا، حتى لو ألح علي أصدقائي الغربيون في ذلك»..

هذا الموقف الروسي يبرره البعض بمصالح موسكو في سوريا، ووجود قاعدة بحرية عسكرية روسية مهمة في ميناء طرطوس السوري، والعلاقات التاريخية الطويلة بين البلدين، وشعبية روسيا والاتحاد السوفيتي السابق في الشارع السوري، الذي تعلم الملايين من أبنائه في الجامعات الروسية والسوفييتية ويرتبطون بروابط ود وتعاطف كبير مع روسيا. وهذه الأشياء جميعها تحققت في ظل نظام الأسد الذي حكم قرابة نصف قرن، وليست هناك ضمانات لاستمرارها كما هي مع نظام جديد يأتي بثورة ضد النظام الحالي.

وهذا في حد ذاته تصور منطقي، لكنه ليس كل شيء، فسوريا بالنسبة لروسيا ليست فقط قاعدة بحرية عسكرية وروابط شعبية تاريخية، بل هي امتداد استراتيجي مهم للغاية بالنسبة لموسكو في الشرق الأوسط، هذا الامتداد الذي يبدأ من روسيا مروراً بإيران ووصولاً لسوريا، ثم من بعدها إلى لبنان وفلسطين، وهو الامتداد الذي يعطي لروسيا أهمية كبيرة لدى إسرائيل.

هذا الامتداد مرهون بشكل كبير بالنظام السوري الحالي، ويمكن أن ينقطع بذهابه ليتوقف فقط عند الحدود الإيرانية ويفقد فاعليته، وتفقد روسيا معه فاعليتها في الشرق الأوسط.