مصداقية الموقف الروسي في ليبيا

ت + ت - الحجم الطبيعي

يدور الحديث اليوم عن تغيير فى الموقف الروسي إزاء تطورات الأزمة الليبية بعد تصريحات الرئيس ديمترى ميدفيدف خلال قمة الثماني الكبار وعقب محادثاته الهاتفية مع رئيس جنوب أفريقيا جاكوب زوما. هذه التصريحات التي اعتبر فيها ميدفيدف أن القذافى أصبح خارج إطار التسوية السياسية للأزمة، وأن المجتمع الدولي لا يرى فيه زعيما لليبيا، وتأكيده على أن موسكو لا تنوي استقبال القذافى. وقد شدد الرئيس ميدفيديف على ضرورة الحوار مع جميع القوى الليبية التي ينتظرها «مستقبل سياسي»، مؤكدا تقدير روسيا لجهود الاتحاد الإفريقي لوقف القتال في ليبيا وتهيئة الظروف لتقرير الشعب الليبي لمصير بلاده بنفسه، عبر إجراء الحوار بين كافة القوى التي ينتظرها مستقبل سياسي في ليبيا، واستعداد الطرف الروسي لهذا الحوار.

في إطار هذه المستجدات يصعب الحديث عن تغير جذري فى الموقف الروسي، وإنما يمكن القول إن موقف موسكو قد اصبح أكثر وضوحا وفاعلية وإدراكا لسبل حل الأزمة الناشبة، وأيضا أصبح أكثر ملائما للظروف الراهنة، حيث لم يكن هناك مبررا في بداية اندلاع الأحداث للحدة والقرارات التشنجية التي طرحها البعض، كما اتضح بمرور الأيام أن روسيا كانت على حق في انتقادها الحاد لتصرفات حلف الناتو في ليبيا وخروجه عن مضمون القرار الأممي لمجلس الأمن الدولي رقم 1973 بشكل واضح، هذا الخروج الذي انتقدته دوائر أوروبية عديدة، كما أوجد خلافات في قيادة العمليات العسكرية في ليبيا اضطرت الولايات المتحدة نفسها إلى الانسحاب من قيادتها، وهذا التطور في الأحداث زاد من حدة الوضع المأساوي في ليبيا بعد سقوط المئات من الضحايا المدنيين من الطرفين من جراء القصف العشوائي لطائرات الناتو، مما دفع قادة الدول الغربية لمناشدة الرئيس ميدفيديف كي تلعب روسيا دور الوسيط في محادثات بين الغرب والحكومة الليبية وفي محادثات بين الحكومة الليبية والمعارضة.

لقد عارضت موسكو منذ البداية تدخل قوات الناتو في مسار الأحداث في ليبيا، كي لا يخضع هذا المسار لرغبات ومصالح القوى الدولية، حيث ترفض موسكو حتى الآن اعتبار حلف شمال الأطلسي مؤسسة دولية يناط بها تنفيذ قرارات المجتمع الدولي، لكن روسيا في نفس الوقت لم تكن قادرة على رؤية سبيل لإيقاف توجهات واشنطن وقيادات حلف الناتو، خاصة أمام مشهد عمليات قصف المدنيين العزل بالطيران التي كانت تقوم بها طائرات القذافي، لذا اكتفت بعدم تأييد قرار مجلس الأمن 1973، وهى تدرك يقينا أنه سيفسح المجال لتدخل عسكري غربي ضد قوات القذافي.

ما كان يحدث في ليبيا قبل قرار مجلس الأمن الدولي كان مذبحة لمدنيين عزل بكل المعايير، ولم تكن هناك إمكانية لإيقاف إراقة الدماء بأي شكل من الأشكال، حتى أن دولا عربية كثيرة طالبت بالتدخل بالقوة لمنع هذه المذابح، وأمام هذا الموقف المأساوي اختارت موسكو أن تتمسك بمبادئها باتخاذ موقفا رافضا للتدخل العسكري يمكنها في المرحلة اللاحقة (الحالية) أي مرحلة التفاوض السياسي من التحرك بحرية، ولكي تبدو الأمور واضحة من زاوية رفض روسيا لأن يخضع تطور الأحداث في ليبيا ومسار التسوية فيها إلى أهواء ومصالح الغرب، ولا يؤخذ بعين الاعتبار مصالح الشعب الليبي.

وبعد أن أجرى وزير الخارجية لافروف لقاءات مع محمد الشريف ممثل سلطة القذافي، ثم أجرى محادثات مطولة مع عبد الرحمن شلقم ممثل المجلس الوطني الأنتقالي، والذي أكد استعداد المعارضة للتفاهم مع أطراف النزاع، شريطة تنحي القذافي. بات واضحا أن روسيا توصلت لبداية التسوية والتي تكمن في تشكيل إطار مشترك تكون مهمته إيقاف العمليات العسكرية وإراقة الدماء، وأيضا تأمين المساعدات الإنسانية لكافة المناطق فى ليبيا، وفي نفس الوقت بدء الحوار السلمي بهدف التوصل لتسوية ترضي الجميع.

وجاءت هذه التسوية استنادا لمبادرة الاتحاد الأفريقي، لكنها كانت تتطلب التوافق على ضرورة تنحى القذافى، وانسجمت مساعي روسيا أيضا مع رؤية جامعة الدول العربية. ولعل هذه العوامل مجتمعة، بالإضافة لإدراك مختلف أطراف النزاع والمجتمع الدولي أن موسكو بعيدة عن لعبة استثمار النزاع لتحقيق مصالح ما، كل ذلك دفع لأن تحظى روسيا بالدعم والتأييد لدورها كوسيط أخذ على عاتقه تسوية الأزمة وإنهاء العمليات العسكرية. فلم يعد ممكنا أن تكون الدول الأوروبية وسيطا بعد أن أصبحت طرفا يشن هجمات ضد قوات القذافي. ومازالت روسيا تؤكد على ضرورة الحفاظ على ليبيا دولة مستقلة وحرة ذات سيادة.

لقد أثبتت روسيا بما تحقق أنها كانت على حق وأن موقفها لم يكن لضعف منها، بل لرؤية متعمقة لمستقبل المجتمع الدولي الجديد الذي يجب أن تحترم فيه كيانات الدول وسيادتها ووحدة أراضيها، ولاشك أن المفاوضات التي ستجرى ستكون بين رموز حكم القذافى السابقين والحاليين، لكنها تجرى في ظل شرعية جديدة برعاية من المجتمع الدولي، ابرز محاورها بناء نظام ديمقراطي يحترم حقوق الشعب.

ويجب أن يكون الدرس المستفاد من الأزمة الليبية انه لا يحق لأي حاكم أن يتجاهل تطلعات شعبه، ولا يمكن للقوى الدولية اليوم أن ترسم خرائط لمصالحها دون أن تجد تسويات مع شعوب هذا المناطق التي لها الحق أن تتطلع للديمقراطية وللحياة الأفضل.

 

كاتب روسي

Email