عقد في العاصمة الفرنسية باريس منذ أيام قليلة، في إطار مجموعة الدول الثماني، مؤتمر خاص بمكافحة المخدرات، شارك فيه مسؤولون من الدول الكبرى ودول أخرى. وبالطبع شغلت أفغانستان الحيز الأكبر في النقاش، باعتبارها المنتج الأكبر للمخدرات في العالم، حيث تنتج وحدها نحو 95% من إنتاج الأفيون العالمي، بما يزيد على ستة آلاف طن سنويا، ومن هذه الكمية يتم إنتاج نحو ستمائة طن من الهيروين الذي هو أغلى أنواع المخدرات. وتقدر عائدات إنتاج أفغانستان وحدها من الأفيون، بنحو مائة وخمسين مليار دولار سنويا، وهو ما يزيد على نصف عائدات سوق المخدرات في العالم كله، حسب تقديرات الهيئات المختصة في الأمم المتحدة.

ومن المعروف أن مشكلة المخدرات من أخطر المشاكل التي تواجه البشرية، بل إنها في نظر الكثيرين أخطر المشاكل على الإطلاق، باعتبار أن ضحاياها سنويا أضعاف ضحايا الحروب والكوارث الطبيعية، حيث يتجاوز عدد الوفيات من ضحاياها حسب تقديرات منظمة الصحة العالمية، أكثر من مليونين سنويا. ورغم هذا لا يرى المجتمع الدولي أية فاعلية وجدية من الدول الكبرى في مواجهة هذه المشكلة الكبيرة، وكان من الممكن أن يمر مؤتمر باريس الأخير، مثل غيره مما سبق من المؤتمرات حول مشكلة المخدرات، دون نتائج أو فاعلية تذكر، لولا تصريح مثير للغاية ألقاه رئيس الهيئة الروسية لمكافحة المخدرات فيكتورإيفانوف، والذي ربط في تصريحه ربطا متعمدا بين زيادة عدد أفراد القوات العسكرية الأجنبية في أفغانستان، وبين زيادة إنتاج المخدرات هناك. هذا الربط أوحى للكثيرين من الحضور في المؤتمر، بأن إيفانوف يقصد أن الولايات المتحدة تدعم وتحمي زراعة وإنتاج المخدرات في أفغانستان، وقد استشعر إيفانوف هذا الفهم لدى الحضور، فتدارك الموقف بذكاء قائلا إنه لا يعني اتهام واشنطن بشيء، بل يقصد أن مناطق التوتر السياسي والعسكري غالبا ما تشهد نشاطا ملحوظا لأسواق المخدرات.

وضرب مثلا بالصين في حرب الأفيون خلال القرن التاسع عشر، وبمناطق أخرى في العالم، إلا أن الحضور لم يقنعهم استدراك إيفانوف لما يقصده من تصريحه، خاصة وأنه ذكر القوات العسكرية الأجنبية الزائدة في أفغانستان في الفترة الأخيرة، وجميعها كما هو معلوم قوات أميركية.

محللون سياسيون كثيرون يشبهون المخدرات في أفغانستان بالنفط في العراق، وهو تشبيه منطقي إلى حد كبير، حيث أن تجارة المخدرات تحقق أعلى عائدات وأرباح في العالم. ورغم تجريم تجارة المخدرات وتعاطيها محليا ودوليا، ومحاربتها في جميع دول العالم، إلا أن تجارتها على المستوى العالمي تدور في حلقات مغلقة وغامضة، تتحكم فيها عصابات وقوى خفية أقوى من الدول نفسها؛ إنها المافيا العالمية للمخدرات، هذه المافيا التي يربط الكثير من الخبراء بينها وبين كبار أغنياء العالم من تجار السلاح وأصحاب شركات النفط العملاقة، إذ لا يتصور أن هذا الدخل الهائل من المخدرات، والذي يقترب من دخل النفط الذي من أجله تشتعل الحروب وتدمر البلدان وتباد الشعوب، بينما يزيد أضعافا مضاعفة عن دخل تجارة السلاح العالمي، من الممكن أن تتركه القوى الكبرى يضيع من يديها. وقد سبق أن ربط الكثير من المحللين بين مافيا المخدرات والشركات العالمية لتصنيع السلاح وشركات النفط الكبرى، و كتب خبير ألماني يدعى كونريد شايتنر يقول "المخدرات مثل الحروب، كلاهما يحققان عائدات خيالية، ومن المؤكد أن هذه العائدات من الاثنين تذهب لجهة واحدة عالمية قوتها أقوى من الدول ومن المنظمات الدولية".

هذه الأمور توضح لنا مدى أهمية أفغانستان التي تعد المخدرات عماد اقتصادها، والمصدر الأول ـ وربما الأخير ـ لرزق الشعب هناك، وهي في نفس الوقت المصدر الوحيد لتمويل الإرهاب والقتال الدائر هناك، وتشكل أفغانستان وحدها نحو نصف السوق العالمي من المخدرات، ومن هنا تأتي أهميتها الرئيسية والتي تسبق أهميتها كموقع استراتيجي. وقد اقترحت روسيا أكثر من مرة على واشنطن وحلف الناتو، حرق مزارع المخدرات في أفغانستان كوسيلة لقطع مصادر التمويل عن الإرهاب، لكن دعواتها كانت ترفض باستمرار بحجة واهية، وهي أن المخدرات تشكل مصدر الرزق الوحيد للنسبة الغالبة من الشعب الأفغاني، ولو حرموا منها فسوف يتحولون جميعهم إلى إرهابيين في صفوف حركة طالبان.

هذه الحجج غير مقنعة، حيث تدل التقارير الدولية على أن الأفغان أنفسهم يحصلون من عائدات المخدرات على نسبة لا تتجاوز الواحد في المائة عن كل محصولهم من الأفيون، وهذا الواحد في المائة يصل معظمه لكبار المسؤولين القائمين على هذه التجارة، بمن فيهم أحمد شقيق الرئيس الأفغاني حامد كرزاي الذي يتهمه بعض التقارير ولم ينكر هذا الأمر. ويفهم من هذا سعى طالبان للسيطرة على مناطق زراعة الأفيون في ولاية هلمند، التي تنتج وحدها ربع إنتاج الأفيون العالمي.

والغريب في الأمر أن الطيران الأمريكي على مدى ستة أعوام مضت، لم يقصف منطقة واحدة في أفغانستان يزرع فيها الأفيون، وربما يفسر هذا الأمر ما يقصده المسؤول الروسي في مؤتمر مكافحة المخدرات الأخير في باريس.