الاقتصاد والسياسة بين روسيا وأوروبا

مساعي الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف لإيجاد نقاط تفاهم مع الدول الأوروبية ما زالت متعثرة، ولا ننكر وجود أسباب موضوعية وذاتية، لكننا نلمس أيضا غياب الحرص والحماس الأوروبي على الاتفاق والتعاون مع روسيا، ولقد عكست قمة روسيا والاتحاد الأوروبي التي عقدت أخيرا هذه العوامل مجتمعة.

فإذا أردنا أن نقوم بنقد ذاتي، فعلينا أن نقول ان الاتحاد الأوروبي غير مستعد لإلغاء نظام تأشيرات الدخول لمواطني روسيا الاتحادية في دول الاتحاد، والذي يعني توفر إمكانية اندماج روسيا في المجتمع الأوروبي، وحرية تنقل الأفراد والأعمال والاستثمارات بين روسيا ودول الاتحاد الأوروبي. وقد أعلن سفير بلجيكا لدى روسيا أن الاتحاد الأوروبي لا يبحث إعفاء مواطني روسيا من تأشيرات الدخول للبلدان الأوروبية بسبب قلقه من تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين من الأقاليم الروسية التي تعاني من أزمات واضطرابات أمنية، مثل أقاليم شمال القوقاز، في وقت تواجه فيه أوروبا تدفق اللاجئين من شمال إفريقيا.

وقد يكون من الصواب أيضاً الحديث عن أن قطاعا من مواطني روسيا يمكن أن يستغل حرية التنقل في أعمال تجارية لا تتجاوب مع متطلبات القوانين الأوروبية، بل وأحيانا تخالف أيضا القوانين الروسية. ما يجعل أوروبا تتعامل بحذر مع هذا الملف في ظل صراع سياسي حاد تشهده القارة الأوروبية حول سبل مكافحة الهجرات غير الشرعية، وارتفاع معدلات البطالة، وتداعيات الأزمة المالية التي لم تنته بعد.

أما ملف منظمة التجارة العالمية والذي كان ولا يزال على مدار أكثر من 17 عاما موضع بحث، فقد أصبح الحوار حوله مملا، لأن كافة الشروط التي حددتها المنظمة واللازمة لقبول عضوية روسيا قد تم بالفعل تنفيذها من قبل الجانب الروسي، بدءا من مضاعفة حصص الشركات الأجنبية في قطاعي التأمين والبنوك من 25 بالمئة إلى 50 بالمئة، بهدف زيادة الاستثمارات الأجنبية في قطاع التأمين الروسي، وانتهاء برفع أسعار الغاز في السوق الداخلي لتتساوى مع أسعاره في الأسواق العالمية. لذا لم يعد منطقيا أن دولا يعتبر نظامها الاقتصادي أكثر تخلفا من روسيا، وتواجه أزمات طاحنة تحصل على عضوية هذه المنظمة دون اية عثرات أو مفاوضات متعسرة، فيما يستمر التفاوض مع روسيا، التي يدخل اقتصادها ضمن أكبر عشرة اقتصادات في العالم، سنوات طويلة دون طائل، ما يعني أن الخلفيات الحقيقية سياسية وليس لها علاقة بأنظمة وقوانين روسيا الاقتصادية.

لكن المشكلة الحقيقية أمام قبول عضوية روسيا في المنظمة أن موسكو يجب عليها أن توقع اتفاق تفاهم على انضمامها لمنظمة التجارة العالمية مع جورجيا ومولدافيا ودول أخرى، تعاني علاقات موسكو معها من خلافات سياسية حادة. وأصبح الموقف معقدا للغاية وغير منطقي أيضا، إذ كيف لدول فقيرة مثل جورجيا ومولدافيا يعتمد اقتصادها كليا على السوق الروسية ليس فقط أن تتمتع بعضوية منظمة التجارة العالمية، بل تملك أيضا الحق في رفض عضوية روسيا في هذه المنظمة، هذا الأمر دفع موسكو لتقديم عرض واضح للاتحاد الأوروبي جاء على لسان رئيس الحكومة الروسية فلاديمير بوتين في اجتماع خصص لتحديد موقف روسيا من منظمة التجارة العالمية، فقد أشار بوتين إلى أن مصدري المنتجات الروسية يواجهون الآن قيودا هائلة ومنافسة غير نزيهة في أسواق البلدان الأخرى، ما يكبدهم خسائر تقارب 2.5 مليار دولار سنويا. وأعرب عن أمله في أن تلغى هذه القيود المفروضة على دخول المنتجات الروسية إلى أسواق البلدان الأخرى بحصول روسيا على عضوية منظمة التجارة العالمية. لكنه أشار أيضا محذرا إلى أن استمرار الوضع على ما هو عليه لن يؤدي إلى فتح الأسواق الروسية أمام السلع الأجنبية تلقائيا. وأن روسيا ستحمي سوقها بزيادة الرسوم الجمركية على عدد من السلع المستوردة. وطالبت موسكو الاتحاد الأوروبي بإنهاء مسألة حصولها على عضوية منظمة التجارة العالمية قبل نهاية عام 2011 مقابل زيادة إمدادات الطاقة لدول الاتحاد الأوروبي والاستجابة لبعض المطالب الأوروبية، وأمام تشدد وتحذير بوتين كانت ليونة الرئيس ميدفيديف الذي قدم لأوروبا تنازلا بإلغاء قرار حظر استيراد الخضراوات الأوروبية، والذي اتخذ بعد انتشار المنتجات الزراعية الملوثة ببكتيريا "أي كولاي" القاتلة، وهو القرار الذي استقبله الاتحاد الأوروبي بسعادة وترحيبا بالغا.

لكن رغم كل هذا فإن العرض الروسي حتى الآن لم يحقق غايته، ما يعنى أن أوروبا ما زالت مترددة في التعاون مع روسيا والتجاوب مع عروضها ومطالبها، هذا التردد يكشف عن البعد السياسي في علاقات روسيا الاقتصادية مع الغرب، حيث بات واضحا أن هناك من يخشى التقارب الروسي الأوروبي في المجالات الاقتصادية، ويخشى أن تصبح دول أوروبا في المستقبل رهينة السوق الروسية العملاقة، ورهن مصادر الطاقة الروسية التي باتت تشكل نسبة تتجاوز الأربعين في المئة من واردات أوروبا من الغاز والنفط، وحتى الآن لم تتوقف الاتهامات من بعض الأوساط الأوروبية والأميركية أيضاً لروسيا باستغلال صادراتها من الغاز كأداة للضغط السياسي رغم أن مستوردي الغاز الروسي من الدول الأوروبية لم يعانوا من أي نقص في واردات الغاز على مدار السنوات الماضية. هذا الوضع بات يفرض على موسكو إعادة النظر في أدواتها ورؤيتها الخاصة بالتعاون مع أوروبا.

الأكثر مشاركة