نصب الغرب نفسه مدافعا عن حقوق الإنسان في العالم كله، واعتقد الكثيرون بأن الغرب يريد أن يكفر عن ذنوبه التاريخية، التي ارتكبها في حق الشعوب الأخرى في أحقاب الاستعمار المتتالية، لكن بمرور الوقت تبين أن شعار "حقوق الإنسان" الذي يرفعه الغرب، ما هو إلا أكذوبة كبيرة وأسلوب جديد للتدخل في شؤون الدول وممارسة الضغوط عليها. وحتى لا تحرج نفسها الحكومات الغربية، صاحبة السجلات السوداء في حقوق الإنسان، سلطت أجهزة أخرى ومنظمات مشبوهة لممارسة هذه المهمة بدلا منها، علماً بأن مهمة حقوق الإنسان قد أوكلها المجتمع الدولي منذ ستة عقود مضت، إلى أجهزة متخصصة في منظمة الأمم المتحدة، لكن الغرب الأوروبي الأميركي لم يقبل بإسناد هذه المهمة للمنظمة الدولية، لعلمه اليقين أنها ستضعه على رأس قائمة المنتهكين لحقوق الإنسان.

لقد أسست الدول الغربية عدة منظمات غير حكومية لحقوق الإنسان في مطلع النصف الثاني من القرن العشرين، ثم جمعت الولايات المتحدة هذه المنظمات عام 1978 في منظمة واحدة غير حكومية، تحت اسم "هيومن رايتس ووتش"، مقرها مدينة نيويورك. وكان نشاط هذه المنظمة بالدرجة الأولى، مركزاً على الاتحاد السوفييتي، ثم وسعت المنظمة نشاطها ليشمل العالم كله، ماعدا الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرهما من كبرى الدول الغربية، وكأن هذه الدول بالتحديد خالية من خروقات لحقوق الإنسان! ولم يكتفِ الغرب بهذه المنظمة ومثيلاتها، بل استخدم منظمات وأجهزة دولية وجهات أخرى، وحتى أفرادا يطلقون على أنفسهم "نشطاء حقوق الإنسان".

مناسبة هذا الحديث هي القرار الذي أصدرته المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان الأسبوع الماضي ضد روسيا، والخاص برجل الأعمال الملياردير ميخائيل خودركوفسكي، الذي يقضي عقوبة بالسجن في موسكو لمدة أربعة عشرة عاما، بتهم نصب واحتيال وفساد وتهرب من دفع ضرائب تقدر بعدة مليارات من الدولارات. فقد قررت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، محاسبة روسيا على ما يعانيه خودركوفسكي في سجنه، معتبرة أنه يعيش في ظروف غير إنسانية في أحد السجون الروسية، حيث تقل مساحة زنزانته هناك عن 4 أمتار مربعة، وحكمت المحكمة الأوروبية بأن تدفع روسيا غرامة مالية لا تقل عن عشرة آلاف يورو، بالإضافة إلى نفقات المحامين البالغة نحو خمسة عشر ألف يورو.

من المعروف أن المحكمة الأوروبية جهاز دولي معترف به، وقراراته ملزمة للدول التي تعترف بإلزاميتها لها، وليست منها روسيا، لكن الغريب في قرار المحكمة هو أنها رفضت طلب المحامين المدافعين عن خودركوفسكي حول وصفه بأنه "سجين سياسي" أو "سجين الضمير". وهذا موقف جيد يحسب لصالح روسيا ولرئيس الوزراء فلاديمير بوتين الذي وصف خودركوفسكي بأنه "لص مكانه السجن"، وإن كانت المحكمة لم تفعل ذلك مجاملة لروسيا، وإنما لأن هذا يتعدى اختصاصها ويتعارض مع قانون المحكمة الذي يجبرها على عدم رفض أحكام المحاكم المحلية في الدول. أما حديث المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان عن الزنزانة التي يقبع فيها خودركوفسكي بأنها ضيقة بمساحتها البالغة أربعة أمتار مربعة، فهو أمر مضحك ومثير للسخرية، ليس لأن هذه المساحة ليست صغيرة، بل كبيرة على شخص بمفرده، وأكبر حتى من زنازين السجون الغربية، ولكن لأن المحكمة رأت أن هذه الزنزانة لا تليق بالسجين خودركوفسكي، بينما لم تذكر المحكمة أي شيء عن آلاف المساجين الآخرين الذين يقبعون في زنازين بنفس المساحة، في نفس السجن وغيره من سجون روسيا.

لماذا خودركوفسكي بالذات الذي تقوم منظمات حقوق الإنسان الغربية من أجله ولا تقعد؟ هذا الشاب الصغير الذي لمع في عهد الرئيس السابق يلتسين، كواحد من أكبر رجال الأعمال المدعومين من لندن وواشنطن، هذا الشاب كان حتى عام 1990 عضوا في منظمة الشباب الشيوعي المسماة "كومسمول"، والتي كانت تعد كوادر الحزب الشيوعي السوفييتي المخلصين للوطن. وكان خودركوفسكي يسكن غرفة صغيرة في مساكن طلبة الجامعات أصغر من زنزانته الحالية، ويتقاضي مساعدة طالب شهرية لا تكفي سوى لطعامه، ولم يكن يملك بيتا أو سيارة أو ربما حتى دراجة هوائية، ثم فجأة بعد أقل من خمسة أعوام أصبح مليارديرا عالميا، يملك شركة النفط الروسية العملاقة "يوكوس" التي تقدر قيمتها بنحو عشرين مليار دولار، ليدخل اسمه ضمن قائمة مليارديرات مجلة فوربس العالميين عام 1997، وفوق هذا يتهرب من دفع الضرائب للدولة، ويرسل أمواله إلى نيويورك ولندن!

عن أمثال هؤلاء فقط يدافع الغرب وتنهض منظمات حقوق الإنسان الغربية، وليس أدل على ذلك من واقعة قريبة عندما ألقت السلطات الروسية القبض على ثلاثة من السياسيين نظموا مظاهرات ضد الحكومة دون ترخيص من الأمن، أحد هؤلاء الثلاثة هو "بوريس نيمتسوف" الليبرالي اليميني، صديق خودركوفسكي وزميله في عهد الرئيس يلتسين، والاثنان الآخران من الحزب الشيوعي الروسي، وهبت منظمات حقوق الإنسان الغربية تطالب بالإفراج فقط عن نيمتسوف، ولم يذكروا شيئا عن الاثنين الآخرين!

المتابع لنشاط منظمات حقوق الإنسان الغربية، يلاحظ أنها لا تدافع سوى عن من يخدمون مصالح الغرب داخل أوطانهم، وبمعنى أكثر صراحة، إنهم يدافعون عن "حقوق العملاء" فقط.