هناك قاعدة في روسيا متعارف عليها تقول «إذا مدحك صندوق النقد الدولي وأشاد بسياساتك فاعلم أنك على الطريق الخطأ»، والعكس صحيح بالضبط، إذا انتقد الصندوق دولة ما فهذا يعني أنها إن لم تكن على الطريق الصحيح فهي على الأقل ليست في خطر، هذا الحديث يأتي الآن بمناسبة التحذيرات التي أطلقها الصندوق مؤخرا فيما يتعلق بالاقتصاد الروسي، وسياسات الحكومة الروسية بشكل عام، حيث ينصح خبراء الصندوق روسيا بإعادة النظر في سياساتها الاقتصادية.

محذرا من أن الاستمرار على هذه السياسات يشكل خطرا على الاقتصاد الروسي ويعرضها بعد عشرين عاما لنفس المصير الذي تواجهه اليونان الآن، ويبني خبراء الصندوق قلقهم المزعوم على المخاطر التي ستترتب على اعتماد روسيا الآن على عائداتها المالية من بيع النفط والغاز، وأيضا إنفاقها، الذي وصفه خبراء الصندوق بـ «المفرط» على البرامج الاجتماعية ومعاشات التقاعد وزيادة الرواتب، ويتهم الصندوق الحكومة الروسية بأنها تسعى لكسب شعبية كبيرة على حساب التنمية الاقتصادية الحقيقية.

الجدير بالذكر هنا أنه في سنوات التسعينات من القرن الماضي، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، كانت روسيا تعاني من أزمات اقتصادية ومالية حادة، ورغم هذا كانت تقارير صندوق النقد الدولي تشيد بسياسات روسيا الاقتصادية وتقول أنها تسير على الطريق الصحيح، والسبب وراء ذلك معروف للجميع، وهو أن روسيا كانت تدور في فلك الغرب وتطبق البرامج الاقتصادية المفروضة عليها من الغرب، ومنها برامج الخصخصة التي أوقعت اقتصاد الدولة السوفييتية العظمى في يد حفنة من عملاء الغرب وزعماء المافيا، ولم تكن هناك أية نسبة نمو في الإنتاج.

بعد أن وضعت روسيا أقدامها على الطريق الصحيح في عهد الرئيس السابق ورئيس الحكومة الحالي فلاديمير بوتين، بدأت تظهر لغة النقد والهجوم على روسيا في تقارير صندوق النقد الدولي، هذا رغم انفتاح الاقتصاد الروسي والتزام روسيا بسياسة اقتصاد السوق، من يصدق أن صندوق النقد الدولي ينتقد دولة لحرصها على سداد ديونها أو لإعفائها دول أخرى ضعيفة وفقيرة من ديونها تجاهها؟، هذا ما فعله الصندوق مع روسيا التي سددت ديونها الخارجية وأعفت عدة دول من ديونها تجاهها، هذا في نظر خبراء الصندوق تبذير وإنفاق غير عقلاني، وهناك داخل روسيا من يؤيدون وجهة نظر خبراء الصندوق مدعين أن هذه السياسات توجه أموال الدولة في الطريق الخطأ وتعرض الاقتصاد الروسي للمخاطر.

تحذيرات صندوق النقد الدولي الأخيرة لروسيا تم إعدادها بأسلوب ملتوي يجمع بين الصح والخطأ، وبين المقبول والمرفوض، حيث انتقد الصندوق اعتماد روسيا بشكل كبير على عائداتها من تصدير النفط والغاز، وهذا النقد تواجهه الحكومة الروسية ورئيسها بوتين داخل روسيا، وحتى من الرئيس ميدفيديف نفسه، والذي أبدى أكثر من مرة عدم رضائه عن الاعتماد على مبيعات الغاز والنفط الخام، أما الخطأ والغير مقبول من الصندوق هو انتقاده لإنفاق الحكومة على برامج الخدمات الاجتماعية للشعب، وخاصة رفع معاشات المتقاعدين التي تضاعفت مرتين منذ عام 2001 حتى الآن، والتي يعتبرها الصندوق تبذير وإسراف مبالغ فيه في زمن الأزمة المالية العالمية، إنهم ينظرون إلى روسيا وكأنها اليونان المفلسة، أو فرنسا وبريطانيا اللتين أوقفتا كافة برامج التنمية الاجتماعية لديهما بسبب الأزمة.

وبالنسبة للاعتماد على عائدات النفط والغاز فإن لرئيس الوزراء بوتين رأيه في هذه القضية، وهو المقبول لدى قطاع كبير من الشعب الروسي، حيث يرى بوتين أنه من الأفضل لروسيا في ظل ظروف الأزمة المالية العالمية أن تحقق أكبر قدر من العائدات المالية من تصدير النفط الخام والغاز الطبيعي، خاصة وإنها بحاجة للسيولة المالية لاستغلال ظروف الأزمة لتحقيق مشاريع تنمية كبيرة في الداخل وشراء مشاريع عملاقة في الخارج لدى الدول التي تعاني من الأزمة المالية وتطرح مشاريعها الكبيرة للبيع، وهي فرصة لن تتكرر في المستقبل بعد انتهاء الأزمة.

كما يرى بوتين أن توافر السيولة المالية من عائدات بيع النفط الخام والغاز للخارج الآن ستساعد روسيا أيضا في تحقيق نجاحات كبيرة على مستوى السياسة الدولية، إذ باستطاعتها أن تكسب دول كثيرة لصفها عن طريق المساعدات المالية والقروض، وخاصة من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق التي تعاني بشدة من الأزمة المالية ولا تجد في العالم من يساعدها، وهذه فرصة كبيرة لروسيا لتعيد هذه الدول تحت جناحها عن طريق المساعدات والقروض، وإلا ماذا سيغري هذه الدول للعودة لروسيا، في الوقت الذي يستغل أعداء روسيا كل الفرص للتغلغل في هذه الدول واستخدامها ضد أمن ومصالح روسيا، وهذا ما حدث في جورجيا وأوكرانيا ودول البلطيق ووسط آسيا.

من المؤكد أن وجهة نظر بوتين مرفوضة تماما لدى صندوق النقد الدولي الذي تهيمن عليه واشنطن منذ تأسيسه بعد مؤتمر بريتون وودز عام 1944 وبداية عمله عام 1947 برأسمال سبعة مليارات دولار أودعتهم واشنطن جميعها فيه حتى تملك قراره، ولكن رفض الصندوق أو قبوله لسياسات الحكومة الروسية لا يهم روسيا في شيء، فهي ليست بحاجة إلى الصندوق، بل على العكس هو الذي بحاجة إليها، بعد أن أصبحت روسيا من الداعمين لميزانية الصندوق وليست من المقترضين منه.