خلال زيارتي الأولى لمصر منذ سقوط نظام مبارك قبل أربعة أشهر، رأيت مجتمعاً نابضاً بالحياة، يتعامل مع واقع التحولات الوطنية العميقة، ويواجه تحديات الرياح المعاكسة. وعلى أساس التفاعل مع شريحة من المجتمع تشارك في بناء "مصر الجديدة"، انطلقت مفعماً بالآمال في أن التنسيق السليم والعزم يمكنهما تحقيق الهدف الرئيسي للثورة، وهو "مصر أفضل" للأجيال المقبلة، ولكن مصر تحتاج أيضاً إلى دعم أفضل وأقوى من الخارج.
إن مصر اليوم مكان رائع، حيث تشهد غضب المناقشات السياسية، والأحزاب السياسية الجديدة التي تتشكل، وإعادة هيكلة المؤسسات، ووسائل الإعلام مفرطة النشاط؛ والأهم من ذلك، أن المجتمع المصري لا يزال يستمد قوته من خلال قدرته على التغلب على الخوف والقمع، وتحمل المسؤولية المباشرة لمستقبل أكثر إشراقاً. كل هذا يشير إلى ما وصفه توماس فريدمان، المحرر في صحيفة نيويورك تايمز الأميركية ثورة "في مصر، بواسطة مصر، ومن أجل مصر". وهو ما يتجلى في الخدمة المجتمعية التي تنتشر في مصر.
يتبنى المتطوعون القرى والأحياء الفقيرة في المدن، لإحداث فارق على أرض الواقع. وينشئ الأفراد مثل وائل غنيم، منظمات غير حكومية جديدة لمساعدة الفقراء. والحالمون أمثال عالم نوبل الدكتور أحمد زويل، يتبنون مشروعات قومية تهدف إلى تحسين فرص الحصول على التعليم العلمي. باختصار، بدأ المجتمع المدني المصري المشاركة من واقع شعوره بأنه مخوّل ومسؤول عن تحقيق غد أفضل، وهذه المشاركة أمر حاسم لمستقبل البلاد في ثلاثة جوانب مهمة.
الجانب الأول، يتعلق بتسهيل التحول تدريجياً في التوازن، بعيداً عن مطاردة المسؤولين عن إخفاقات الماضي فحسب، وفي اتجاه مزيد من التركيز على المستقبل. وبمجرد تقديم مرتكبي جرائم الماضي إلى العدالة، فسوف تقترب مصر من "الحقيقة والمصالحة"، والتي كانت أمراً محورياً بالنسبة لجنوب إفريقيا للتخلص من الفصل العنصري في عقد التسعينات، ومن ثم تحقق ما وصفه الرئيس الجنوب الإفريقي السابق نيلسون مانديلا بالقدرة على "التسامح، وليس النسيان". وكلما عجّلت مصر بهذا، زاد احتمال الحد من هروب رؤوس الأموال، وجعلها تتدفق عائدةً إلى البلاد.
الجانب الثاني، يتمثل في التذكير اليومي للمصريين بأن الثورات ليست أحداثاً منفصلة، بل عمليات تحويلية تستغرق وقتاً وتنطوي على كثير من الخطوات. وفي الحقيقة، فالجزء الأكثر وضوحاً لأية ثورة (وهو إسقاط النظام القديم)، يعتبر خطوة ضرورية وشجاعة، غير أنها تحتاج إلى تعزيزها بالالتزام الثابت بمبادرات جريئة متطورة.
الجانب الثالث، هو أن هذه المشاركة بمثابة مرساة لسلسلة من التوجّهات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمؤسسية المحفوفة بالتحديات، وكل هذا يعد نتاجاً طبيعياً للثورة. وتحتاج هذه التحولات لامتلاكها محلياً والتعامل معها جيداً، وتقديم الدعم اللازم لها من قبل الأصدقاء والحلفاء من خارج مصر (بمن فيهم المصريون المقيمون في الخارج).
خلال الأشهر المقبلة، سوف تبدأ مصر مجدداً وبشكل كامل، إنعاش اقتصاد تعرّض "للتوقف المفاجئ"، خلال أيام الاحتجاجات الشعبية. وفي غضون ذلك، يجب تغيير البنية الاقتصادية، لتحقيق النمو الشامل الذي يسرّع من تخفيف وطأة الفقر، ويحسّن القدرة التنافسية الدولية ويستعيد التوازنات المالية. العدالة الاجتماعية هدف رئيسي في "مصر الجديدة"، إلا أنه في أعقاب الانتفاضة الشعبية، أصبح الفقراء أشد فقراً، كما أن تراجع السياحة حرم العديد من دخولهم في ذلك القطاع غير الحكومي، وأدى تقلص النشاط الاقتصادي إلى تراجع إيرادات أخرى، وارتفعت الأسعار بسبب انقطاع الإمدادات وارتفاع أسعار السلع العالمية.
حينئذ يأتي دور مؤسسات القطاع العام. فكما أشار "جان مونيه"، الأب الروحي الفرنسي للوحدة الأوروبية، ذات مرة قائلاً: "من دون مشاركة الرجال والنساء، لا يمكن تحقيق أي شيء، لكن كل شيء قابل للتحقق بمشاركة المؤسسات". يتعين على مؤسسات القطاع العام التغلب على سيطرة المصالح الخاصة التي أحدثت الضرر في الماضي، وعلى العاملين في القطاع الخاص مقاومة تقديس الشخصيات التي تحد من فعاليتهم، مع مواجهة الشعور السائد بانعدام الأمن، حالما تعود الشرطة بشكل كامل إلى التواجد في الأحياء والشوارع.
من المؤكد أن هذه التحولات ليست سهلة أو أوتوماتيكية، ولكن بالإمكان تحقيقها من قبل مجتمع مصري ملتزم بهدف ثورته. نظرياً، يمكنهم تلقى مساندة إقليمية وعالمية، لكن ذلك لن يتأتي لأن المنطقة تعصف بها قبضة التغيير، كما أن الاقتصاد العالمي يقوّضه تباطؤ النمو وارتفاع معدلات البطالة في الدول المتقدمة وأزمة الديون في أوروبا. وهكذا، بدلاً من تلقي الدعم، تواجه مصر رياحاً معاكسة؛ حتى ذلك الدعم الاستثنائي الذي تلقته من أصدقائها وحلفائها، كان هزيلاً وأقل من أن يتناسب مع أهمية الثورة المصرية، وهذا ما يجب أن يتغير أيضاً إذا ما قدر لمصر أن تستكمل ثورتها الناجحة.