العلاقات الروسية الأوروبية وازدواجية النوايا

مشكلة روسيا مع الأوروبيين أنهم في لقاءاتهم الثنائية معها يقولون أشياء، وعندما يذهبون ويجتمعون معا بعيدا عنها يقولون أشياء أخرى مناقضة، وأيضا يظهرون أنفسهم وكأنهم مستقلون تماما عن الولايات المتحدة ولا يخضعون لها في قراراتهم، ولكن عندما تتصاعد الأمور وتصل لدرجة الحسم نجدهم يفعلون ما تأمر به واشنطن ويوافقون على ما تقوله حتى لو كان ضد مصالحهم.

وهذه التناقضات الأوروبية هي ما تعاني منه روسيا الآن، خاصة أن كبرى الدول الأوروبية مثل ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وأسبانيا أصبحت تربطها بروسيا علاقات تعاون اقتصادي وتجاري واسعة النطاق، وفي الغالب في هذه العلاقات يكون الأوروبيون هم المستفيدون أكثر من روسيا، أو على الأقل مضطرون للتعامل مع روسيا لعدم وجود خيار آخر، وهذا واضح في مجال مصادر الطاقة من النفط والغاز الطبيعي، حيث باتت مصادر الطاقة الروسية تشكل أكثر من أربعين بالمائة من حاجة الأوروبيين للطاقة.

وقد أبدت دول المعسكر الاشتراكي والشيوعي السابق في أوروبا الشرقية شكلا من أشكال العداء والنفور تجاه روسيا الحديثة، وهرولت هذه لدول نحو الولايات المتحدة الأمريكية وحلف شمال الأطلسي، وفتحت أراضيها القريبة من الحدود الروسية للقواعد العسكرية الأمريكية لحلف الناتو، وها هي بولندا وتشيكيا تتوسلان لواشنطن لتنشر منظومات الدرع الصاروخية على أراضيهما، إلى جانب اعتراض هذه الدول على سياسات موسكو في كل مكان ومجال.

ورغم هذا كله نجد هذه الدول في حالات الجد التي يريدون فيها شيئا مفيدا لشعوبهم ووطنهم من روسيا لا يتوانون عن طلبه منها علنا حتى لو اعترضت على ذلك واشنطن، وقد لاحظنا ذلك من لجوء دول مثل بلغاريا التي هي عضو في حلف الناتو وسياساتها الآن مناهضة لروسيا، لا تتوانى بلغاريا عن التعاقد مع روسيا لبناء محطات طاقة نووية لها.

وذلك لمميزات التقنية النووية الروسية وقلة تكلفتها عن نظيرتها الأمريكية والغربية، ورغم اعتراض واشنطن على هذا الأمر إلا أن بلغاريا وغيرها من دول أوروبا الشرقية لا تتراجع عن التعامل مع روسيا، طالما كان الأمر لمصلحة شعوبها.

وقد انعقدت منذ أيام القمة السابعة والعشرين بين روسيا وقيادة الاتحاد الأوروبي، وشارك فيها الرئيس ديميترى ميدفيدف، ويبدو شكليا ودبلوماسيا أن هناك توافقا بين موسكو و العواصم الأوروبية الكبيرة على العديد من الملفات السياسية الساخنة على الساحة الدولية، مثلا في الشأن الليبي بدت التصريحات متطابقة حول مصير الزعيم الليبي القذافي إذ أعرب قادة روسيا والاتحاد الأوروبي عن قناعتهم بضرورة تنحي القذافي من السلطة، وانتقال ليبيا إلى مرحلة التحولات الديمقراطية.

وهو تقريبا نفس موقف موسكو التي قالت إنها لا ترى مستقبلا للقذافي في العملية السياسية في ليبيا، ورغم هذا التوافق نجد أن جوهر المواقف مختلف تماما، حيث يوافق الأوروبيون على الطاولة مع روسيا على مبدأ الحوار لحل الأزمة في ليبيا، بينما يذهبون داخل حلف الناتو يدعمون استمرار العمليات العسكرية للحلف هناك ويؤيدون إمداد الثوار الليبيين المعارضين بالسلاح.

ومن الواضح أن التقارب الشكلي في الملفات السياسية الدولية بين موسكو والأوروبيين لم يقابله اتفاق حول عدد من قضايا العلاقات الثنائية بين روسيا والقارة الأوروبية، فقد فشلت القمة الروسية- الأوروبية فى تحقيق أى تقدم فى ملف حصول روسيا على عضوية منظمة التجارة العالمية، رغم أن موسكو أقدمت على مبادرة حسن نوايا، بإلغاء قرار حظر استيراد الخضروات الأوروبية الذي صدر بعد انتشار الخضروات الملوثة ببكتيريا "أي كولاي" القاتلة.

وقد دفعت نتائج قمة روسيا-الاتحاد الأوروبي العديد من السياسيين الروس للاعتقاد بأن الدوافع الحقيقية لتعطيل خطط وبرامج تطوير علاقات روسيا مع القارة الأوروبية ترتبط بشكل مباشر بعدد من ملفات السياسة الدولية الساخنة.

ومن الملاحظ أن القمة الأخيرة بين روسيا والأوروبيين لم تناقش مصير معاهدة الشراكة الإستراتيجية التي جمدت منذ عام 2007، وهل سيتم استئناف المفاوضات على معاهدة جديدة، ام أن ملف الشراكة الإستراتيجية قد أغلق ولن يطرح للبحث خلال السنوات القادمة؟

لقد بات ضروريا أن يعيد الاتحاد الأوروبي النظر في وتائر عمله المرتبطة بالتعاون والتنسيق مع روسيا، ليس فقط لضمان إمدادات الطاقة المستقرة، ولكن من أجل ملفات أخرى ربما تكون أكثر أهمية، مثل قضايا الأمن الأوروبي التي تعتبر روسيا جزءا لا يتجزأ منه، وتدرك دول أوروبا القديمة حقيقة الحوار وتناول المواضيع الإيجابية والسلبية في العلاقات مع روسيا، لأن هذه الدول فى الوقت الذى توجه فيه انتقادات لسياسات القيادة الروسية الخاصة بحقوق الإنسان.

وأسلوب تعاملها مع الأزمة الجورجية، إلا أن هذه الدول نفسها تحرص وتواصل تعاونها الاقتصادي مع روسيا فى مختلف مشروعات الطاقة، كما أن هذه الدول القديمة والكبيرة في أوروبا هي التي عانت كثيرا في زمن الحرب الباردة من الإنفاق العسكري الذي كان يفرض عليها غصبا في إطار حلف الناتو لمواجهة التهديدات القادمة من الاتحاد السوفييتي، وبالتالي هذه الدول هي التي تعرف جيدا قيمة التقارب مع روسيا، ما يعني أنه يجب عليها قبل غيرها أن تسعى لتطوير العلاقات مع روسيا

إن تطوير التعاون الروسي الأوروبي يعتبر ضرورة حيوية للطرفين، ما يتطلب إيجاد مدخل أكثر جدية، لإخراج هذا التعاون من مأزقه الراهن، ولضمان أمن القارة الأوروبية والمجتمع الدولي. وعدم الالتفات لمواقف أي قوى أخرى تمارس ضغوط بهدف تعطيل هذا التعاون لتحقيق مصالحها الضيقة.