خلق الله الإنسان في كبد، وهذا الكبد هو الذي يجعلنا ندور مع الدنيا كما الرحى حيثما دارت، تتعدد وجهاتنا ومقاصدنا وأهدافنا، منا من يسعى لتبوؤ منصب، وآخر لمكانة مرموقة بين قومه، وثالث لجمع المال.. والناس من خوف الفقر في فقر، ومن خوف من الغد الآتي لا نعلم أبأتراح أم بأفراح، في ترقب وحذر.. ولأن الله سبحانه بفضله ورحمته وجوده وكرمه، يعلم مدى الضعف الإنساني، هيأ لنا في هذه الدنيا على وحشتها وقسوتها، نفحات تعيد لنا شيئا من التوازن النفسي وراحة البدن، عندما قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم "ألا إن لله في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا إليها".

هذه النفحات تجعل الإنسان يتوقف عندها ليملأ صدره بعبير نسيمها، وليستظل بها محتميا من هجير الحياة كما يستظل بمد الشجرة في يوم صائف، ولينظر بتأمل إلى مشوار حياته ماذا قدم آنفا وما هو مقدم عليه مستقبلا، وما قيمة أفعاله في ميزان الله، قبل أن ينتهي أجله وهو لا يعلم أساخط رب العالمين عليه أم راض عنه، وليدرك المعنى الحقيقي الذي من أجله خلقه الله حينما قال سبحانه "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون".

وفي يقيني أن شهر رمضان هو من أعظم النفحات التي هيأها الله سبحانه لعباده، ومن فاته أن يغتنمه فقد فاته خير عظيم. وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم واصفا القرآن الكريم الذي أنزل في شهر رمضان، بأنه "لا يمل من كثرة الرد". فرغم أننا نقرأ القرآن منذ ما يزيد على ألف وأربعمائة سنة، إلا أن إعجازه يأتي من استمتاعك به في كل مرة تقرأه وكأنها الأولى.

كذلك شهر رمضان اختصه الله دون سائر الشهور بحالة خاصة، يستشعرها المسلم فتهفو النفس إليه وتترقب مجيئه ضيفا غاليا، فإذا جاء دبت الحياة فيها، فيمحو ما اعتراها من سواد المعصية التي جعلتها مربدة كالكوز، بفعل سلوكيات ملنا فيها عن الحق كثيرا، ليأتي الشهر الكريم ويُقوم الميل ويُجبر الكسر ويزكي النفس ويسمو بالروح. يخفف ارتباطنا بالأرض وثقلها، ويجعلنا نسمو فوق الصغائر ونكبح جماح النفس وغلوها. ولمَ لا، وقد كان هذا حال الصحابة عند الطاعة، عندما قال لهم الرسول الكريم "لو أنكم بقيتم على ما أنتم عليه عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات".

إن الله سبحان وتعالى عندما كتب علينا الصيام، لم يكن يشق علينا أو يعذبنا به في الدنيا، ولكن ليبعث في الإنسان القدرة على ألا يكون عبدا لعاداته التي يصبح ويمسي عليها، وأن يكون قادرا على ترويض نفسه التي بين جنبيه، وأن يفطمها عن شهوات الطعام والشراب وغيرهما، فخير عادة ألا تكون للمرء عادة.

والقدرة على أن يغالب الإنسان شهواته أيا كانت، هي من أعظم دروس الصوم الذي تنقسم مراتبه بين صيام العوام، وهم من يمتنعون عن الطعام والشراب فقط، وصيام الخواص وهم من يمتنعون، علاوة على الطعام والشراب، عن الخوض في ما يغضب الله، ويحفظون كافة الحواس عما حرم الله، وصيام خواص الخواص وهم الذين يتحكمون حتى في خلجات أنفسهم، ويبتعدون عن المعاصي ولو كانت مجرد خواطر أو حديث النفس.. وقليل ما هم. لذا فإنه العبادة الوحيدة التي قال عنها سبحانه في حديث قدسي: "كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به". وإذا أردت أن تعرف قدر العطاء، من الواجب أن تنظر إلى من سيعطي، وعطاء الله لا تحده حدود.

أتأمل كثيرا المساءات المباركة لهذا الشهر الكريم، وأنا أرى الوفود تترى على قيام ليله، فارين إلى الله صغارا وكبارا، وجِلَت قلوبهم وانسابت دموعهم على الوجنات، على حق ضيعناه أو ذنب اقترفناه، فأعلم أنها بُشريات المغفرة، فالنفس المنكسرة بفعل المعصية والرغبة في الإنابة، أفضل عند الله من النفس المصابة باستعلاء الطاعة، والعين التي رزقها الله البكاء هي عين لا تمسها النار.. ومن ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط؟

أتأمل حال المصلين بعد فراغهم من أداء صلاة القيام، وهم يصافحون بعضهم بعضا بوجوه غير التي قد دخلوا بها الصلاة، وكأن بهاء الطاعة قد زادها نورا وبريقا، وصفاء القلب وطهارته ملامحهما بادية على قسمات الطائعين. فللطاعة حلاوة لا يعلمها إلا من ذاقها، ونعيم قال عنه الصالحون: لو علمه الملوك لجالدونا عليه بالسيوف. كما يستوقفني تقاطرهم على مصافحة من صلى بهم إماما، إجلالا وتقديرا لحامل كتاب الله، فاحترام العلم والعلماء في نفوسهم لا يمكن إغفاله أو محوه، مهما ذهبت بهم وسائل الإعلام بعيدا في تقديم نماذج للقدوة، تختلف عن طبيعة مجتمعاتنا ومزاجها الذي نشأت عليه وتوارثته كابرا عن كابر، وإن الخير في هذه الأمة باق إلى يوم الدين.

إنني أدعو أن نجعل من شهر رمضان نقطة انطلاق لنسمو بأنفسنا فوق كل النقائص، وليكن سلوك رمضان هو النموذج الذي نتمثله في باقي الشهور، وزاد الطاعة في رمضان هو المعين لنا والدافع على فعل الرشد، ولتكن إرادة رمضان هي الباعث على حب أوطاننا وتعميق الانتماء إليها، ولتكن ثقافة التسامح وحب الغير في شهر رمضان هي ديدننا في بقية الشهور. فرَب رمضان هو رَب باقي الشهور، وإذا ولى رمضان فرب رمضان باق، ولنجعل من رمضان محطة كبرى نرد فيها المظالم إلى أهلها، ونملك شجاعة الاعتذار إلى من أخطأنا في حقه، ونعفو عمن أساء إلينا، ونصل فيه من قطعنا، ونعطي من حرمنا، وليكن فرصة لإعادة ترتيب أولوياتنا، بحيث نجعل رضى الله سابقا على رضى الناس، ولنعمر ما بيننا وبين الله قبل أن نسعى لكسب رضى الغير، ولنجعل حب الله ورسوله في قلوبنا أحب إلينا من أنفسنا وأهلينا والناس أجمعين.

ليكن شهر رمضان صحوة كبرى لبذل مزيد من الجهد والعرق لنصرة بلادنا ورفعتها، فحب الوطن من أغلى العبادات، والتضحية في سبيله ليس لها جزاء إلا الجنة، ولندعو الله أن يبلغنا رمضان أعواما عديدة وسنوات مديدة، لأنه كما قال الرسول الكريم "لو يعلم الناس ما في رمضان من خير لتمنوا أن يكون العام كله رمضان". وهذا ما يجعلنا ننتظر قدومه من العام إلى العام بلهفة مرددين.. حبيب جاء على فاقة.