منذ أيام قليلة، وبالتحديد في التاسع عشر من أغسطس، كانت الذكرى العشرون لانهيار الاتحاد السوفييتي، هذا الحدث الذي احتل الصدارة في أحداث القرن العشرين. وما زال الجدل قائما ومستمرا حول أسباب الانهيار، وأيضا حول نتائجه وتداعياته التي ما زالت مستمرة حتى الآن، حيث يرى الكثير من الخبراء والمحللين والمراقبين أن ما يحدث في العالم الآن من حروب ونزاعات وأزمات ومشاكل كثيرة، إنما هو نتاج غياب التوازن في القوى العالمية، بعد انهيار القوة العظمى الثانية وهيمنة القوة العظمى الأميركية.

ويحلو للكثيرين تصوير انهيار الاتحاد السوفييتي على أنه انتصار للغرب بقيادة واشنطن، لكن من الواضح أن الولايات المتحدة الأميركية لا يوجد لديها حماس للاحتفال بذكرى هذا الانهيار، بل إن هناك الكثير من المحللين داخل الولايات المتحدة وخارجها، يرون أن انهيار الاتحاد السوفييتي هو بداية العد التنازلي لانهيار القوة العظمى الأميركية، وذلك استنادا لقواعد التاريخ التي لم تشهد بقاء قوة عظمى لوقت طويل بعد انهيار القوة المنافسة لها، منذ صراع الفرس والرومان وحتى صعود فرنسا وبريطانيا.

فدائما في ظل التنافس تسعى القوة العظمى لبناء قوتها العسكرية والاقتصادية وتوسعة نفوذها، وفي غياب التنافس يتراجع الاهتمام ببناء القوة الاقتصادية ويقل الإنفاق على تطوير القوة العسكرية، ومن هنا يأتي التراجع.

والولايات المتحدة الأميركية نموذج على هذه القاعدة التاريخية، فقد لعب وجود الاتحاد السوفييتي الدور الأكبر في بناء ونمو القوة الأميركية وفرض النفوذ الأمريكي في مختلف أنحاء العالم، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية وبروز القوة السوفييتية العظمى بترسانتها العسكرية وجيشها الأحمر الكبير وجهاز استخباراتها العالمي، وهيمنة هذه القوة على شرق أوروبا، ورفع الشعارات الأيديولوجية الشيوعية فيها، الأمر الذي استغلته واشنطن جيدا لتخويف دول أوروبا الغربية المنهارة بعد الحرب، من المد الشيوعي الأحمر، فما كان من هذه الدول إلا أن تسلم زمام أمورها العسكرية لواشنطن تحت عباءة حلف شمال الأطلسي، وتسلم أيضا زمام أمورها الاقتصادية لها تحت عباءة مشروع مارشال للنهوض بأوروبا.

ولم يكن من الصعب بعد إخضاع أوروبا الغربية للنفوذ الأمريكي، أن يخضع العديد من دول العالم من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، لهذا النفوذ في ظل تمدد النفوذ السوفييتي في شرق أوروبا، وظهور مؤشرات المد الثوري الشيوعي في العديد من دول العالم، الأمر الذي ساعد واشنطن كثيرا في حملتها لتخويف الشعوب والأنظمة الحاكمة من المد الأحمر الشيوعي القادم من الاتحاد السوفييتي.

وهكذا نشرت واشنطن المئات من قواعدها وقواتها العسكرية في مختلف دول العالم، ودارت عجلة الصناعات العسكرية الأميركية بشكل مذهل حقق عوائد مالية خيالية، وأصبحت الإرادة الأميركية هي السائدة في نحو ثلثي دول العالم. وكل ذلك بفضل وجود الاتحاد السوفييتي، الذي رغم اعتباره القوة العظمى الثانية، إلا أن فارق القوة بينه وبين القوة الأولى الأميركية كان كبيرا للغاية، وكان يعاني من أزمات داخلية حادة، وصلت في بعض الأحيان إلى ما يشبه المجاعات في بعض المناطق السوفييتية النائية.

كما كان يعاني من إخفاقات كثيرة ومتتالية على الساحة الدولية أمام قوة النفوذ الأمريكي، وفي أوج الحرب الباردة في سنوات الستينات والسبعينات، كان الفساد يضرب في أركان النظام السياسي الحزبي في موسكو، وكانت قضايا وأزمات الجمهوريات السوفيتية الاقتصادية والسياسية والأمنية تتفاقم.

ويمكن القول إن الاتحاد السوفييتي كقوة عظمى، لم ير خلال العقود السبعة من عمره، أي سنوات استقرار أو رخاء اقتصادي، وكان معظم ثرواته يذهب هدرا في الإنفاق على أكثر من نصف شعوب العالم الفقيرة، بينما كانت الشعوب السوفييتية تعاني الفقر والحرمان من أبسط مظاهر الرفاهية التي كان يتمتع بها نظراؤها من الشعوب الأخرى، لدرجة أن بعض المحللين المؤرخين للحقبة السوفييتية، يرون أن واشنطن كان بإمكانها تحطيم الاتحاد السوفييتي وتفتيته في بداية سنوات السبعينات، في عهد الزعيم السوفييتي ليونيد بريجنيف الذي شهد تفشي الفساد في أعلى أجهزة الحكم في موسكو، لكن واشنطن لم تشأ أن تفعل ذلك لأنها بالفعل كانت تخشى غياب هذا المنافس وهذه الفزاعة التي تستخدمها لتخويف الدول والشعوب، ولفرض هيمنتها ونفوذها في كل أنحاء العالم.

لقد تبينت صحة هذه النظريات إلى حد كبير بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، حيث غاب المنافس القوي، وذهبت واشنطن تبحث عن منافس آخر لها لتخيف به الدول والشعوب، فلم تجد سوى "الإرهاب الدولي" المتمثل في التطرف الإسلامي وتنظيم القاعدة. لكنها على ما يبدو لم تستطع إقناع العالم بهذا المنافس الغامض، الأمر الذي أفقدها هيبتها ونفوذها بشكل كبير، وجعل حلفاءها الأوربيين يتمردون عليها، وقد بدا هذا واضحا في العراق وأفغانستان، ثم جاءت الأزمة المالية العالمية الأخيرة التي يرى الكثير من الخبراء أنها ستكون بداية النهاية للإمبراطورية الأميركية. إلا أن التحليل الأكثر دقة في رأينا، هو الذي يرى أن بداية النهاية كانت منذ عشرين عاما عندما انهار الاتحاد السوفييتي.