الساحة السوفييتية تقاوم الثورات الشعبية

ما يسمى بـ «الربيع العربي» أصبح يشكل مصدر قلق كبيراً للعديد من أنظمة الحكم في دول العالم الكبيرة والصغيرة، خاصة وأنه قدم نموذجا استثنائيا غير مسبوق في التضحية الشعبية من أجل إسقاط الأنظمة الحاكمة، ولم يعد التهديد بالسجن أو الضرب أو القتل يفيد في إيقاف المد الثوري الشعبي، فقد أعطت الشعوب العربية درساً في التضحية بالنفس لم يعرفه التاريخ من قبل.

والمثير للخوف والقلق لدى بعض الأنظمة أن القضية لم تعد في استبداد الحكام بالسلطة وقمعهم للشعوب، ولا حتى في الفقر والجوع وتدهور مستوى معيشة الناس، بل تجاوزت ذلك كله إلى حد المطالب السياسية والطمع في الاستيلاء على السلطة، وأصبح مجرد تحريك عدد قليل من الجمهور كفيلاً بإشعال ثورة شعبية طالما ان الدعم الأجنبي وتدخل القوى الكبرى في صف الجماهير الثائرة مضمون، فقط يكفي استفزاز الأنظمة الحاكمة ودفعها لاستخدام القوة والعنف في مواجهة الثوار حتى تنطلق الثورة وتتحرك القوى الأجنبية وتتدخل وتقدم دعمها للثوار.

ما حدث في بعض الدول العربية، وخاصة الحالة الليبية، يؤكد أن الأمر يتوقف في النهاية على مدى أهمية واستراتيجية البلد الذي تندلع فيه الثورة الشعبية، وإذا كانت منطقة الشرق الأوسط هامة واستراتيجية للقوى العالمية الكبرى، فإن هناك مناطق أخرى لا تقل عنها أهمية وجاذبية، ومنها على وجه التحديد منطقة الفراغ السوفييتي السابق، هذه المنطقة التي وضعتها واشنطن على رأس قائمة استراتيجياتها التوسعية منذ انهيار الاتحاد السوفييتي حتى الآن، وهي المنطقة التي سبقت منطقة الشرق الأوسط والبلدان العربية في الثورات شبه الشعبية.

وما أطلق عليه مصطلح «الثورات الملونة»، والتي لقيت دعما كبيرا من الغرب وواشنطن، وكان بعضها مدبرا بشكل مباشر من واشنطن، وذلك باعتراف حكام أميركا، مثل الرئيس السابق جورج بوش الابن الذي اعترف بدعم واشنطن للثورة الوردية في جورجيا عام 2003 والثورة البرتقالية في أوكرانيا عام 2005، وكذلك في أوزبكستان عام 2005.

وفي قيرغيزيا ومولدافيا وغيرهما من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، ورغم أن هذه الثورات الملونة قد تراجعت وأصابها الفشل بعد أن اكتشفت الشعوب حقيقة الأهداف والأطماع الأجنبية من ورائها، إلا أن الغرب وواشنطن لم ييأسوا، ومازالت المحاولات مستمرة، وزاد الأمل لديهم بعد اندلاع الربيع العربي، وقد صدرت العديد من التصريحات من سياسيين في اليمين المحافظ الأميركي تهدد بانتقال الربيع العربي إلى الساحة السوفييتية، وكان آخرها تصريح المرشح الجمهوري السابق للرئاسة الأميركية جون ماكين الذي قال فيه «إن فلاديمير بوتين في روسيا ينتظره نفس مصير حسني مبارك في مصر».

حالة القلق والتوتر في الساحة السوفييتية السابقة دعت الدول هناك إلى مناقشة هذه القضية الهامة في اجتماعات واسعة، كان آخرها منذ أيام قليلة في قمة منظمة الأمن الجماعي في العاصمة الكازاخستانية «آستانة»، هذه المنظمة التي تضم في عضويتها سبع دول من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، هي روسيا وبيلاروسيا وأرمينيا وكازاخستان وأوزبكستان وقيرغيزيا وطاجيكستان.

وقد دار النقاش في هذه القمة بالتحديد حول ضرورة البحث عن آليات مشتركة بين دول المنظمة لمقاومة المد الثوري الشعبي داخلها، وقد صرح الأمين العام لهذه المنظمة، الروسي نيقولاي بورديوجا قائلا «على الرغم من أنه لدى المنظمة ما يكفي من الوسائل السياسية والعسكرية لحماية الدول الاعضاء من وقوع اضطرابات إلا أنه ليست هناك أية دولة بمأمن من تكرار الربيع العربي فيها».

لقد وصلت حدة وجدية النقاش في قمة منظمة الأمن الجماعي إلى درجة اقتراح بعض هذه الدول باستخدام القوات العسكرية المشتركة لهذه الدول لحماية الأنظمة الحاكمة فيها من الثورات الشعبية المتوقعة فيها، وقد تقدم رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكا بهذا الاقتراح الذي لاقى قبولاً من البعض ورفضاً حاداً من البعض الآخر، مثل أوزبكستان التي رأى رئيسها إسلام كريموف أن هذه القوات تم تشكيلها باتفاق دول المنظمة عام 2009 لصد عدوان خارجي يهدد أمن البلاد وليس لمواجهة اضطرابات شعبية داخلية، هذا على الرغم من أن نظام إسلام كريموف في أوزبكستان تعرض عام 2005 لثورة شعبية كبيرة كانت مؤيدة بشدة من واشنطن وكادت تطيح به لولا الدعم الروسي السريع .

المشكلة التي ناقشتها قمة منظمة الأمن الجماعي بجدية هي أن قوى المعارضة في هذه الجمهوريات على اتصال مباشر وقديم بواشنطن ودوائر غربية ومنظمات وجهات دعم أجنبية كثيرة، ولهذا اتفقت الدول في هذه القمة على اتخاذ إجراءات مشتركة للحد من هذه الاتصالات وللحد من تدخل الجهات الأجنبية في الشؤون الداخلية لدول المنظمة، ومراقبة كافة أنواع وأشكال الدعم الأجنبي لتشكيلات المعارضة في هذه الدول، وفي نفس الوقت لم ترفض القمة مقترح تشكيل قوة أمنية مشتركة بين الدول للتصدي للمد الثوري الشعبي، لكنها أرجأته للمستقبل.