حين تختلف حسابات البيدر عن حسابات الحقل...

وسط خلافات فلسطينية بعضها يتخذ طابعاً جذرياً وبعضها الآخر يتخذ طابعاً تكتيكياً، وتكهنات حول مدى إصرار الرئيس عباس على التوجه إلى الأمم المتحدة، سعياً وراء قرار بحصول فلسطين على مقعد كامل في الأمم المتحدة، حسم الرئيس الأمر في خطابه يوم الخامس عشر من سبتمبر الجاري، حين أعلن في إطار شرح مستفيض لأسباب وأبعاد تلك الخطوة، أنه سيقدم بنفسه الطلب إلى الأمين العام للجمعية العامة للأمم المتحدة.

كان من الطبيعي والمتوقع أن يثير القرار الكثير من الجدل، وردود الفعل والكثير من الأسئلة والتكهنات، في الساحتين الفلسطينية والدولية، فالقرار لا يعبر عن إجماع فلسطيني، ولم تشترك في اتخاذه، قوى المعارضة الإسلامية.

ولم يستند إلى ترتيبات داخلية فلسطينية جديدة وجادة، تحضيراً لخوض هذا التحدي الذي يستنفر ضده كل طاقة الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، ويضع بعض الكتل السياسية الدولية الفاعلة في حالة إرباك وتردد وقلق إزاء كيفية التعامل معه.

إذا كان المثل الشعبي يقول «بأن البعرة تدل على البعير، والقدم تدل على المسير» فإن الساحة الفلسطينية لا تزال تئن تحت وطأة الانقسام، والمصالحة لم تجد طريقها إلى التقدم نحو إعادة توحيد الصفوف رغم مرور أكثر من خمسة أشهر على توقيع الوثيقة المصرية، والحراك الشعبي الفلسطيني، ما يزال ضعيفاً، وخطوة الذهاب إلى الأمم المتحدة، لم تسبقها مراجعة سياسية، وقراءة معمقة للتطورات العربية والإقليمية والدولية، بما قد يؤدي إلى تغيير وتعديل على خيار المفاوضات التي وصلت إلى طريق مسدود باعتراف الرئيس الفلسطيني نفسه.

والحقيقة أن الرئيس عباس في خطابه، قد حدد أبعاد القرار الفلسطيني، فهو من وجهة نظره، وتلخيصاً لجمل كثيرة وردت في الخطاب، يسعى إلى تحسين الموقف التفاوضي، والمساهمة في دفع المجتمع الدولي لفتح البوابات التفاوضية التي تغلقها إسرائيل والولايات المتحدة، وليس للتحول عن المفاوضات كخيار أول وثان وثالث بالنسبة للرئيس عباس الذي لم يفقد الأمل في إمكانية استئنافها.

الولايات المتحدة، والأوروبيون أيضاً لم يفقدوا الأمل في إمكانية احتواء أو تحجيم الخطوة الفلسطينية، أو إفشالها عند اللزوم، ومحاصرة تداعياتها، بهدف تكريس الآليات والمرجعيات التي جرى اعتمادها منذ ثمانية عشر عاماً لإدارة مفاوضات عبثية شكلت غطاء لسياسات عدوانية إسرائيلية غيرت على الأرض، الكثير من الوقائع التي يفترض أنها من أركان العملية التفاوضية ومن أهم ملفاتها.

بعد زيارات للمنطقة مكثفة قام بها مبعوثو الإدارة الأميركية ديفيد هيل ودينيس روس وقامت بها مفوضة العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي كاثرين أشتون، واتصالات لم تتوقف قام بها مبعوث الرباعية الدولية توني بلير، حملت كلها تهديدات وضغوطات للطرف الفلسطيني أكثر مما حملت مبادرات، لثني الفلسطينيين عن عزمهم.

وواصلت الإدارة الأميركية مساعيها لإفشال الطلب الفلسطيني في مجلس الأمن من خلال إقناع أو إرغام سبع دول على الأقل من أعضاء المجلس، بعدم تأييد الطلب الفلسطيني تجنباً لرفع الفيتو في وجه الطلب، وإلا فإنها ستفعل ذلك حتماً.

في مواجهة مثل هذه التحديات الخطيرة، التي يزيد طينها بلة، ما يمكن أن تقوم به إسرائيل من اعتداءات، وخطوات صعبة ضد الفلسطينيين، تغطيها سياسات أميركية أكثر من واضحة في دعمها وحمايتها لسياسات حكومة نتانياهو، فإن الاستعدادات الفلسطينية لمقابلة أو تحمل تبعات قرارهم، تبدو ضعيفة وواهنة.

فضلاً عن ذلك، ترك الرئيس عباس تساؤلات مفتوحة بشأن المدى الذي يمكن أن يصله الطلب الفلسطيني بعد مجلس الأمن، وأيضاً بشأن المقبل من تداعيات بعد كل موضوع الأمم المتحدة، وهو في كل الأحوال لم يتهيأ، ولم يحضر الساحة الفلسطينية لمواجهة تحد استراتيجي يتجاوز حدود رغبته في تحسين الوضع التفاوضي.

على أن الرئيس الأميركي سارع إلى إقفال كل البوابات التي تركها الرئيس عباس مواربة، ولم يترك للفلسطينيين أي خيار سوى الانصياع للموقف الأميركي الذي يعكس بالضبط ما تريده إسرائيل. أوباما في خطابه أمام الجمعية العامة الحادي والعشرين من هذا الشهر، شدد بوضوح على أن الأمم المتحدة ليست الطريق إلى السلام، وأن السلام ممكن فقط عبر العودة لمفاوضات ثنائية ومن خلال قدرة الفلسطينيين وتتسع لتشمل الإقليم كله.

أوباما تجاهل أن السلام مع الإسرائيليين بدأ منذ ثلاثين عاماً من خلال اتفاقية كامب ديفيد مع مصر، وتجاهل مرور سبعة عشر عاماً من المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية، يتجاهل كل هذه الوقائع والسنوات، فيطالب الفلسطينيين والإسرائيليين من مربع وخيار المفاوضات إلى خيار الصراع والاشتباكات، حتى لو أن حسابات الرئيس الفلسطيني كانت في حدود تكتيكية.

ويبدو أن الرئيس الأميركي كان في خطابه قد أغلق الطريق على الحل الوسط الذي قدمه الرئيس الفرنسي ساركوزي، الذي اقترح أن يكتفي الفلسطينيون بتحويل مقعد منظمة التحرير في الأمم المتحدة إلى موقع دولة مراقب، ووضع جدول زمني من أجل التوصل إلى السلام خلال عام.

قبل ذلك فشلت الرباعية الدولية التي اجتمعت على هامش الجمعية العامة، في التوصل إلى موقف مشترك، وكان السبب هو تمسك الأميركيين بالموقف الإسرائيلي الذي يرفض التوجه للأمم المتحدة ويرفض تجميد الاستيطان، ويرفض الاعتراف بحدود الرابع من يونيو 1967.

خلاصة الأمر هو أن على الفلسطينيين أن يعيدوا ترتيب صفوفهم وجمع أوراق الصراع، عبر استراتيجيات متفق عليها، وبأشكال نضالية مفهومة ومقبولة من الرأي العام الدولي، ذلك أن طريق المفاوضات قد تم إغلاقه تماماً، ولا يبدو أن ثمة سبيلاً لفتحه خلال المرحلة المقبلة.

هذا التحول يرتب على كل القوى الفلسطينية المنقسمة، المعارضة والموالية، أن تضع جانباً أو تؤجل تحفظاتها، وخلافاتها، وأن تندفع خلف القرار الفلسطيني، الذي اختار الأمم المتحدة ميداناً للاشتباك، ومرجعياتها وآلياتها، أساساً ومنطلقاً للتحول عن خيار وطريق، لم ينجم عنه سوى المزيد من المآسي والخسائر التي لحقت وتلحق بالفلسطينيين وقضيتهم وحقوقهم.

إن الرغبات الذاتية، والنوايا الحسنة، لا تضع سياسة، ولا تجلب إنجازات ما لم تكن مستندة إلى إرادة صلبة، وقوة تدعيم الحق، وحسابات صحيحة لاستراتيجيات الخصم ورؤيته لمصالحه ومصالح الآخرين.

 

 

الأكثر مشاركة