مفاوضات أم اشتباك؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

القرار الفلسطيني بالتوجه إلى الأمم المتحدة لطلب انضمام دولة فلسطين إليها بعضوية كاملة، يشكل في مضامينه وأبعاده، محطة فاصلة بين مرحلتين، مرحلة تبني خيار المفاوضات والبحث عن السلام كأولوية، ومرحلة الاشتباك المتدرج الذي يأخذ بعين الاعتبار، وقائع المرحلة التي سبقت.

ويضع أمامه كهدف، تحقيق تحول جدي وملموس في موقف الرأي العام الدولي، إزاء الادعاءات الإسرائيلية والحقوق الفلسطينية والعربية. فلقد استنفدت الولايات المتحدة، والرباعية الدولية، كل ما يمكن لها أن تفعله خلال عقدين من المفاوضات، دون أن تنجح هذه الآليات في التوصل إلى صيغة توافقية، تلتقي عندها الشروط الإسرائيلية شبه المستحيلة لتحقيق السلام، والحقوق الفلسطينية التي تقف عند الحد الأدنى من الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني.

لخص بنيامين نتانياهو في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، الرؤية الإسرائيلية للسلام، وهي تلخيصاً تقوم على:

أولاً؛ الأولوية المطلقة لتحقيق الأمن الاستراتيجي لدولة إسرائيل، الأمر الذي يتجاوز قدرة الفلسطينيين وصلاحياتهم، ليطال الأمن العربي والإقليمي والدولي.

ثانياً؛ القدس مدينة موحدة وعاصمة أبدية لإسرائيل لا يمكن التنازل عنها أو التفاوض بشأنها إلا في حدود الحقوق الدينية، ومساحتها توسعت إلى أن بلغت الآن نحو 20% من الضفة الغربية.

ثالثاً؛ الأراضي المحتلة عام 1967، هي أراضٍ متنازع عليها، وتستند إسرائيل في ادعاءاتها للصيغة الفرنسية للقرار 242، الذي يتحدث عن أراضٍ محتلة، ولذلك من حقها إقامة المستوطنات على أجزاء من هذه الأراضي.

رابعاً؛ يترتب على الفلسطينيين الاعتراف مسبقاً بإسرائيل كدولة يهودية، مقابل اعترافهم ـ اليهود- بحق الفلسطينيين في دولة على أجزاء من الضفة الغربية وقطاع غزة.

خامساً؛ ترفض إسرائيل رفضاً مطلقاً حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى بيوتهم وأراضيهم التي شردتهم منها قبل عام 1948، وترى أن الدولة الفلسطينية المقزمة هي المكان الذي يحق فيه للاجئين الفلسطينيين عودتهم، مقابل أن إسرائيل هي المكان الذي يحقق فيه اليهود عودتهم.

وفق هذه المحاولات التي تجر أطماعاً أخرى، مثل إصرار إسرائيل على الاحتفاظ بوجود عسكري فعال في منطقة غور الأردن، التي تصل مساحتها إلى نحو ثلث مساحة الضفة الغربية.

وما قد ينجم عن تبادلية الأراضي من إزاحة مئات آلاف الفلسطينيين المتمسكين بأرضهم في إسرائيل، نقول وفق هذه المحددات، تكون إسرائيل قد تركت للفلسطينيين دولة مقطعة الأوصال على نحو 42% من الضفة الغربية، ومصادرة بقية الحقوق، فضلاً عن توظيف هذه الدولة المقزمة لحماية الأمن الإسرائيلي.

لم تعد الرؤية الإسرائيلية للسلام مجرد أحلام أو أوهام أو ادعاءات، فلقد دأبت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على ترجمة هذه الرؤية إلى وقائع عملية عنيدة على الأرض، مما يؤدي فعلياً إلى تقويض الحقوق الفلسطينية.

في الواقع، فإن الإسرائيليين يتبعون بإخلاص، الوعد الذي أطلقه في مؤتمر مدريد الأول عام 1991، رئيس الحكومة آنذاك اسحق شامير، الذي حضر المؤتمر في حينه تحت ضغط الإدارة الأميركية، فقال وقتها "يمكن أن تستمر المفاوضات لعشرين عاماً أو أكثر"، معبراً من خلال ذلك عن رفضه لكل مجرى مفاوضات السلام التي اعتمدت في حينه صيغة الأرض مقابل السلام.

المجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة، تواطأ مع السياسات الإسرائيلية، وصمت إزاء الجرائم والعدوانات التي ارتكبتها إسرائيل، وإزاء مخططاتها لتقويض الحقوق الفلسطينية في القدس والضفة الغربية، وربما يكون انجر وراء الأوهام الإسرائيلية التي راهنت على تشتت الفلسطينيين وقبولهم، تحت ضغط موازين القوى، بصيغة حكم ذاتي لصلاحيات محدودة.

لا يخفى على المراقبين أن الرئيس الأميركي باراك أوباما، قد حاول في بداية عهده حماية إسرائيل من تطرف قياداتها، لكنه تحت ضغط رغبته في ولاية رئاسية ثانية، وتحت ضغط العناد الإسرائيلي، عاد وتراجع عن محاولاته، بطريقة غير منظمة، إلى أن شل هذا العناد كل قدرته على العمل من أجل استئناف المفاوضات، وبات على الولايات المتحدة أن تدفع من رصيدها ومصداقيتها ثمن هذه التراجعات.

الولايات المتحدث لم تتوقف عن محاولاتها لتأمين إمكانية استئناف المفاوضات الإسرائيلية - الفلسطينية، ولو شكلياً، حتى لا تضطر لإعلان الفشل. فهي من ناحية، تتجند بكل إمكانياتها لإفشال الطلب الفلسطيني في الأمم المتحدة، ومن ناحية ثانية تمارس ضغوطاً كبيرة ومتدرجة على الفلسطينيين للقبول بالصيغة التي تقدمت بها الرباعية الدولية.

والتي لا تحمل للفلسطينيين جديداً، ولا توفر لقيادتهم أي حافز للموافقة على استئناف المفاوضات، في ظل استمرار إسرائيل في الاستيطان، وفي رفض حدود الرابع من يونيو، كمرجعية للدولة الفلسطينية.

ويبدو أن الإدارة الأميركية تحاول إغداق المزيد من الضمانات والمكافآت لإسرائيل، مقابل موافقة الإسرائيليين على تجميد الاستيطان ولو بشكل مؤقت، غير أن هذه المحاولة ستبوء بالفشل أيضاً، لأنها تنطوي على وصفة مؤكدة لانهيار ورحيل حكومة نتانياهو، الذي لم يعد يعرف كيف يواجه مسلسل الأزمات الداخلية والخارجية التي تعاني منها إسرائيل.

الوقائع، والسياسات والمواقف، تؤكد أن التوجه الفلسطيني إلى الأمم المتحدة، لا يندرج في سياق الخطوات التكتيكية أو في سياق الخيار التفاوضي، بقدر ما أنه يشير إلى تحول استراتيجي نحو الاشتباك والصراع المفتوح، في ظل معطيات ومتغيرات دولية وإقليمية وعربية، وإسرائيلية وأيضاً فلسطينية مختلفة تماماً عما سبق.

يدعو هذا الاستنتاج، إلى مطالبة الفلسطينيين بالانتقال فوراً إلى حوار وطني شامل، يستهدف مراجعة التجربة السابقة، واشتقاق استراتيجية جديدة، بما في ذلك إعادة النظر في وثيقة المصالحة التي لم تعد بمضامينها، صالحة لبناء وحدة وطنية قادرة على مجابهة التحديات الجديدة واستحقاقات المرحلة المقبلة.

إن التدقيق في المشهد الفلسطيني يعطي استنتاجات محزنة، فعدا عن الانقسام الخطــير الذي يعــانون منه منذ أكــثر مــن أربــع ســنوات، فإن المرحلة الماضية من البحث عن السلام والتكيف مع متطلباته، قد أدت إلى إهمال، بل وتدمير الكثير من عوامل قوتهم كشعب وكحركة وطنية، الأمر الذي يحتاج كأولــوية إلــى برنامــج يستهدف إعــادة بنــاء وتفعيل كل طاقات الشعب الفلسطيني، في مختلف أماكن تواجده.

Email