المثقف العربي بين الاغتراب والتهميش

تبقى إشكالية المثقف ودوره وأزمته ومكانته في المجتمع، من الإشكاليات المهمة والرئيسية المطروحة على الساحة الفكرية والثقافية والسياسية في الوطن العربي. ففي ظروف صعبة جدا واستثنائية يمر بها العالم العربي، يتساءل المرء عن المثقف والمنظر والمفكر العربي، أين هو؟ ما هو دوره في المجتمع؟ ما هو موقفه مما يحدث من حوله؟

ما هو موقفه من الثورات الشعبية؟ ما هي إسهاماته في إنجاح المرحلة الانتقالية وتكريس إرادة الشعب على أرض الواقع؟ ما هي اتجاهاته وآراؤه حول الابتزاز والاستغلال والإهانات التي تتعرض لها الأمة العربية؟ هل من مكانة للمثقف في مجتمع يفتقد مستلزمات التفكير والتعبير عن الرأي والحوار والمناقشة والحريات الفردية وحرية الصحافة، وما إلى ذلك من مستلزمات وضرورات وشروط الإنتاج الفكري الناضج، الذي يستطيع أن ينّظر ويؤّسس للتطورات والتحولات المهمة والمصيرية في المجتمع؟!

التجارب التاريخية في الوطن العربي تشير إلى مرض الاغتراب والتهميش والإقصاء، الذي عانى وما زال يعاني منه المثقف العربي عبر الأجيال والعصور، ففقدان الحرية والديمقراطية وانتهاك حقوق الإنسان والحريات الفردية، كلها عوامل أدّت إلى اغتراب المثقف العربي وتهميشه، سواء داخل وطنه،.

حيث أصبح من الغرباء فيه لا يتعرف عليه ولا يتفاعل معه كما ينبغي، لأنه إذا فعل ذلك يكون مصيره مجهولا، أو أننا نجده يلجأ إلى الهجرة طلبا للحرية ولمتنفس يجد فيه مجالا للتفكير والإبداع. لكن تبقى الغربة والعيش خارج المحيط الطبيعي للمثقف، بمثابة الموت البطيء. والمثقف مهما كانت الصعاب والمشاق والمشاكل والعراقيل، يبقى دائما مسؤولا إزاء مجتمعه لتحقيق الأهداف النبيلة التي يناضل من أجلها، وهي العدالة والمساواة والحرية والقيم الإنسانية النبيلة، ومن أهمها توفير الظروف المناسبة للفكر والإبداع.

إشكال آخر مهم جدا ضمن سياق ظاهرة اغتراب المثقف، يتمثل في الرقابة الذاتية وممارسة الانسلاخ الإرادي والمباشر من المجتمع، والعيش على ضفافه وقشوره. وهذا موت بطيء آخر يعاني منه المثقف العربي، وهو نوع من الانتحار حيث لا يستطيع المثقف أن يجرؤ على التعبير عما في داخله، ولا يستطيع أن يضع أفكاره في خدمة المجتمع وفي خدمة المهمشين والمحرومين. فالإشكال هنا يتمثل في التقرب من السلطة، وهذا يعني بعبارة أخرى الانسلاخ عن الجماهير، أو التقرب من الواقع ومن الجماهير، وهذا يعني غضب السلطة على المثقف وإسكاته أو تهميشه بطرق مختلفة، بعضها معلن والبعض الآخر سري وضمني.

وفي كل هذا نجد أن المجتمع هو الخاسر الكبير في نهاية المطاف، لأن المجتمع الذي لا يملك نخبة من المثقفين العضويين، ونخبة من المفكرين تنّظر وتنتقد وتقف عند سلبياته وهمومه ومشاكله وتناقضاته وإفرازاته المختلفة، لا يستطيع أن يكون مجتمعا يتوفر على شروط النجاح والإبداع والتحاور والنقاش البناء والجاد، بين مختلف الفعاليات والشرائح الاجتماعية.

وآليات الاتصال هنا داخل المجتمع مهمة جدا، فكلما كانت مرنة وسلسة ويسيرة، كلما نجم عنها التفاهم والوئام والوصول إلى الأفكار النيّرة. لكن كلما تعقدت آليات الاتصال والتواصل في المجتمع، وكلما أصبحت عسيرة ومفتعلة ومتملقة ومنافقة، كلما زادت مشاكل المجتمع وتفاقمت.

وزاد سوء الفهم وانعدم التفاهم والحوار واحترام الآخر. هذا ما يقودنا للكلام عن الثقافة التي أفرزتها القوى المختلفة في المجتمع، فهذه الثقافة هي بكل وضوح ثقافة التبرير والتملق والتخدير والتزييف، وكأن الهدف في نهاية المطاف هو تجهيل الرأي العام وتخديره، بدلا من توعيته والرقي به إلى مستوى الفعل والمشاركة في صناعة القرار، وفي تحديد مصيره ومكانته بين الشعوب والأمم.

ما هو دور المثقف في المجتمع؟ وما هي علاقته بالسلطة؟ أسئلة تفرض نفسها في الوطن العربي، وخاصة في الأزمات المتعاقبة والعويصة التي تعيشها الأمة العربية من المحيط إلى الخليج.

في البداية نتساءل عن مكانة المثقف في المجتمع وعن وضعيته، وعن الدور الموكل إليه. ولماذا نتكلم دائما في الوطن العربي عن أزمة المثقف؟ لماذا، مثلا، لا نتكلم عن المثقف العضوي في المجتمع، المثقف الفاعل والمؤثر الذي ينتقد ويقف عند هموم وشجون المجتمع، المثقف الذي يعمل على تغيير الواقع وليس تكريسه، المثقف الذي يساهم في صناعة الفكر والرأي العام، المثقف الذي يحضّر مجتمعه شعبا وقيادة لمواكبة التطور الإنساني والحضاري، والتفاعل الإيجابي مع ما يحدث في العالم.

ولا بد هنا من الإشارة إلى ضرورة النظر إلى المثقف كجزء فرعي من نظام كلي وهو المجتمع، ونتساءل هنا؛ هل المثقف ينتج المجتمع أم أنه جزء من المجتمع؟ فالمثقف عادة ما يكون مرتبطا بواقعه وبمجتمعه يتفاعل معه، يؤثر فيه ويتأثر به. لكن الإشكالية التي تطرح هنا، تتمثلل في ماهية وطبيعة العلاقات التي يقيمها المثقف مع الجهات المختلفة الفاعلة في المجتمع. وهنا نقف عند علاقة المثقف بالسلطة، هل هي علاقة تملق وذوبان في هذه السلطة، أم أنها علاقة احترام متبادل وبذلك تكون إمكانية التأثير وإبداء الرأي والاختلاف، وصولا إلى علاقة التضاد.

ما هي، إذن، علاقة المثقف العربي ببيئته؟ أي علاقة المثقف بالسلطة، وعلاقة المثقف بالجمهور وعلاقته بالقضايا اليومية للمجتمع، وأيضا علاقته بالقضايا الطارئة. ففيما يتعلق بعلاقة المثقف بالسلطة بقيت الأمور على حالها، رغم المطالبة بتجسير الفجوة الموجودة بينهما.

والمحاولات القليلة التي سجلت، كانت مع الأسف الشديد من قبل المثقفين إزاء السلطة، أي من طرف واحد، الأمر الذي يدعو إلى التشاؤم والتحسر على واقع سلبي للغاية، في عصر العولمة والثورة المعلوماتية. فالمثقف في هذه الظروف يبقى أسير نفسه، يعمل ليل نهار على إرضاء السلطة والتنظير لها وتبرير كافة أعمالها، سواء كانت صائبة أم خاطئة.

هذه النوعية من المثقفين تسمى بأشباه المثقفين، وإذا انتشرت في المجتمع فإنها تنشر ثقافة الاستسلام والرضوخ والخنوع، وثقافة التملق والنفاق والقضاء على بذور الديمقراطية من أساسها، لأن الديمقراطية تقوم على التعددية والاختلاف في الرأي، ولا تعددية ولا رأي من دون فكر، ولا استقلالية في التفكير من دون حرية ومن دون مبادئ.

الأكثر مشاركة