لم أكن أتوقع أن تعطى جائزة نوبل لأدونيس في هذه الدورة، فللجائزة حساباتها التي لا تكتفي بمعايير الخلق الأدبي والإبداع الفني، كما تشهد المثالات والحالات لدى الكثيرين ممن نالوا الجائزة وهم يستحقّونها، ولكن عوامل أخرى لعبت دورها في الترجيح والاختيار، لا تمتّ بصلة إلى عالم الأدب.
أما بالنسبة إلى من كانوا يتوقعون أن تمنح الجائزة هذا العام لأدونيس، تحية لما اصطلح على تسميته "الربيع العربي"، فقد خفي عنهم أن أدونيس، وإن طار إلى تونس للاحتفاء بمحمد بوعزيزي الذي أشعل فتيل الثورات العربية، فإنه لا يعد الآن رمزاً من رموز الربيع العربي، شأنه في ذلك شأن معظم المثقفين العرب.
وإن كان بعضهم يتصدّر واجهة المعارضة والقيادة السياسية للحراك الشعبي. ذلك أن من صنعوا الحدث لم يأتوا من النخب الثقافية، ولم يتخرّجوا من المدارس العقائدية والأحزاب السياسية، أكانت قديمة أم حديثة، دينية أم علمانية.
لقد أتوا من عصر العولمة وثوراتها التقنية الفائقة، بقدر ما جسدوا نمطاً جديداً، بفكره وحيويته وأدواته وفاعليته، أخذ يبرز مع ولادة الإنسان الرقمي والفاعل الميديائي والمخيال السبراني. يضاف إلى ذلك أن موقف أدونيس ملتبس من الثورات الجارية، بل هو يميل إلى السلب، إذ يعتبرها مجرد انقلابات تسقط حكاماً لكي يحل محلهم آخرون، من دون تغيير جوهري في بنية المجتمعات العربية. ومن المفارقات أن أدونيس الذي أفنى الشطر الأكبر من عمره يدعو للثورة والتغيير، يتراجع الآن بعد اندلاع الثورات في غير بلد عربي.
مع أن هناك فارقاً كبيراً بين الأنظمة القائمة التي فقدت صلاحيتها ومشروعيتها، وبين ما يخلق ويتشكّل على أرض الواقع، من طفرات وقفزات وتحولات تنفتح معها إمكانات جديدة للوجود والحياة، إذا أحسن استثمارها، سوف تغيّر وجه العالم العربي، وتؤثر في مجريات العالم وخريطته. هذا ما تشهد به آثار الثورات العربية التي تُستلهم نماذجها في غير بلد، وقد وصلت أصداؤها إلى وول ستريت في واشنطن.
حيث التظاهرات والاعتصامات تجري على منوال ما جرى في ميدان التحرير في القاهرة، ضد السياسات المالية التي تقود إلى الإحباط، كما اعترف الرئيس الأميركي أوباما، بقدر ما تولد التفاوت والفقر والبؤس. ثم إن الثورات هي لحظات استثنائية خارقة، تدفع الناس إلى كسر جدار الخوف، وإلى التظاهر في مواجهة آلات القتل، هكذا مؤثرين المجازفة بحياتهم على البقاء في ظلّ أنظمة الشرّ والفساد.
أما النظام الجديد، فإنه لا يتمّ بين ليلة وضحاها، ولا أحد يملك بشأنه، وصفات مسبقة أو جاهزة، لا من جهة الثوار، ولا من جهة سواهم. لأن هذا النظام يحتاج بناؤه إلى جهود جبارة، تشارك فيها مختلف قوى المجتمع وفاعلياته. وقد لا يتحقق إلا بعد صراعات مريرة وتجارب طويلة.
وفي أي حال، فإن بناء نظام جديد، هو إنجاز مستقبلي، ولا أقول بأنه تاريخي، لأن المرء يعمل ويشقى أو يجتهد ويبتكر أو يصمد ويقاوم، لا لكي يصنع تاريخاً أو يسطّر بطولات، بل لكي يفتح أبواب المستقبل، ليندرج في زمنه ويعيش حاضره، ويساهم في بناء مجتمعه وعالمه.
وإذا كانت جائزة نوبل للأدب لم تعطَ لأدونيس، ولا لأي عربي آخر، فإن نوبل للسلام أعطيت لمن يستحقها: الناشطة اليمنية توكل كرمان. وكان الأمر مفاجئاً لنا، نحن الذين نتوقع ما لم يحصل، وبالعكس لا نتوقع ما حصل. وكان من الطبيعي أن تمنح جائزة السلام لتوكل كرمان، تحية لنشاطها الخلاق ودورها الفعال في الثورة اليمنية السلمية، هي التي ترابط بخيمتها، في ساحة التغيير، فتتحرك وتبادر وتتدخل وتتحدث بجرأة، غير عابئة بمخاطر ذلك، مخاطبة الرئيس المتشبث بسلطته المتآكلة أن يرحل، لأن نظامه فشل في إدارة البلاد وجرّ الكوارث على العباد.
بل تبيّن أن كرمان بدأت نشاطها، بالمعارضة والاحتجاج ضد النظام، قبل سنوات، بالانخراط في العمل المدني والاهتمام بالشأن العمومي، في مختلف المجالات الحقوقية والسياسية والتنموية.. وكان من الطبيعي أن تهدي الفائزة، بدورها، الجائزة الكبرى لشابات وشباب الانتفاضات العربية، وللثائرين اليمنيين في ساحة التغيير وميادين الاحتجاج. ولا غرابة؛ فما حصل ويحصل هو صناعة مشتركة، بقدر ما هو إيمان بوحدة المصير، لبناء يمن جديد وعالم عربي مختلف، يسهم في صناعة الحضارة القائمة.
وما يجري في اليمن يؤكد أن أعمال التجديد والتحديث، قد تأتي، ومن حيث لا نحتسب، من الهامش المهمل أو المستبعد. والهامشي هو من لا يحسن استخدام عقله أو استثمار مقدراته. وبالعكس، فالذي يمارس وجوده على سبيل الاستحقاق والحضور البناء والفعال، هو من يستثمر طاقته الفكرية على الوجه الأحسن.
وهكذا كسر شباب اليمن جدار الصمت والخوف، وخرجوا على هامشيتهم، وتحرّروا من عجزهم، بكسر القوالب الأيديولوجية والأنساق الثقافية، التي تخنق الحيوية وتعطّل المبادرة الخلاقة.
والمفاجئ، بل المدهش، أن اليمنيات اللواتي كنّ على هامش الهامش، قد كسرن الطوق المحكم، وخرجن إلى الشارع مع الشباب، وربما قبلهم، ليعبرن عن غضبهن، ويمارسن الرفض والاحتجاج، ويسهمن في صنع التحولات الجارية.
وأعتقد أن الثورة المقبلة، ستكون ثورة المرأة، ليس فقط لكي تتحرّر، بل لتحررالرجل من عقده وضعفه. في أي حال، لقد فضحنا اليمن بشاباته وشبانه، بل بشيوخه وقبائله الذين انضمّوا إلى الثورة يطالبون برحيل "الطاغية"، نحن الذين نتقن عبادة زعماء مستبّدين، فاسدين، مجانين، من حيث علاقتهم بالسلطة والثروة والعقيدة.. وتلك هي المفارقة. كنا نظنّ أن اليمن وراءنا، فإذا به أمامنا، يحقق قفزة نوعية، ليصنع نموذجه في التحرّر والتحديث والتقدم.
بعد كتابة مقالتي هذه، علمت بأن أدونيس، كان في المستشفى، في بيروت، يوم إعلان اسم الفائز بجائزة نوبل للأدب،لإجراء عملية جراحية. ولعله تعمد ذلك، كما يقول الأستاذ عبدو وازن في مقالته الأسبوعية في جريدة "الحياة"، لأنه كان في قرارته لا يتوقع نيل الجائزة، أي بخلاف ما توقعه وازن والكثيرون.
وحسناً فعل أدونيس، لأنه بات من المسيء له أن يطرح اسمه، كل عام، في بورصة المتنافسين، منذ أكثر من عقدين، أي منذ أن نال الجائزة الروائي نجيب محفوظ عام 1988.
وأنا لو كنت مكانه لرفضتها، كما فعل جان بول سارتر، لأن الكثيرين ممن نالوها، هم أقل منه قيمةً ووزناً وأثراً في مجال الشعر وفي عالم الثقافة والفكر. أهنّئ الشاعر الكبير بالسلامة، بعد تكلّل العملية بالنجاح، وأتمنى له أن يعود إلى استئناف نشاطه الحيّ والخلاق.