في الربيع العربي لكيلا تتكرر المأساة

لنتفق أو نختلف حول تسميته بـ"الربيع العربي"، سمه ما شئت. دعنا لا نشتت الجهد في الخلاف حول التسمية، المهم هنا أننا أمام مرحلة تغيير كبرى يشهدها العالم العربي. ومخطئ من يختزل هذه المرحلة فقط، في الإطاحة برأس الهرم في أي منظومة ديكتاتورية في العالم العربي. صحيح أن إسقاط "الرئيس" يشكل علامة فارقة في المشهد، إلا أنها تبقى مسألة "رمزية" لمرحلة التحول العربية.

والخطوة الأولى والأساس في هذه المرحلة، هي تجاوز الإنسان العربي لعقدة الخوف "السياسي" الذي زُرع فيه قصداً، عبر ممارسات منظمة باشرتها الأنظمة العسكرية في عالمنا العربي، تلك التي قالت في بدايات عهدها إنها جاءت من أجل تحرير شعوبها، فإذا بها تستعبدهم وتنكل بهم من أجل تحويلهم إلى قطعان بشريه لا تفكر في غير قوت يومها.. هنا يبدأ التحول. أما الخلاص من الديكتاتور ـ على أهميته ـ فإنما يشكل خطوة واحدة في مسيرة طويلة وصعبة ومعقدة، لكنها ليست مستحيلة.

 فما دمر وخرب ـ على كل المستويات ـ على مر عقود، لن يصلح بين ليلة وضحاها أو بمجرد الخلاص من رأس الهرم. المهم اليوم أن المواطن العربي قد عرف سر قوته، وهو تجاوز الخوف من الديكتاتورية، وترتيب أموره بنفسه بدلاً من تصديق الوعود الكاذبة بالإصلاح، داخلية كانت أو خارجية.

ولكيلا يتحول هذا "السر" إلى طريق سهل للفوضى، أو يستغل لأجندات سياسية تعيدنا إلى المربع الأول، تأتي الحاجة ماسة إلى "خارطة طريق" فكرية تؤصل للمستقبل العربي القادم. لسنا بحاجة لاختراع العجلة من جديد، لكننا معنيون بدراسة تجارب الآخرين وفهمها والاستفادة منها. التجارب الإنسانية الكبرى هي تجارب مشتركة، يمكن أن تعيننا للوصول إلى نظام يحمي الفرد من طغيان السياسي، ويقدم أجندات التنمية على ألاعيب السياسة ودهاليزها. انتهى عصر القرار الفردي، وحان عهد الشراكة في صناعة القرار.

إن من شروط البقاء في العصر المقبل، وجود آلية إدارية (وسياسية) قادرة ومؤهلة على فهم لغة عصرها ومجاراتها. وهذا يتطلب أولاً التأسيس لثقافة حقيقية، تحترم التنوع في الآراء والتوجهات والمذاهب والأفكار، ثقافة لا تفرض "الرأي الواحد" وتمقت الإقصاء، وتفهم معنى ديمقراطية العمل السياسي وحرية التعبير، واحترام القوانين وحقوق الإنسان. لا بد من التأسيس لثقافة المؤسسات، خاصة الرقابية منها، تلك التي تحمي المجتمع من الطغيان السياسي وتردع الفرد من التمادي في استغلال سلطاته.

هذه المفاهيم السياسية لتأسيس مجتمع دولة المؤسسات، لن تأتي بمجرد الخلاص من نظام سياسي أو بمحاكمة رئيس أو إعدام ديكتاتور. إنها ثقافة تتطلب، من أجل التأسيس لها، منظومة من المشاريع الكبرى، تبدأ بالفكر ولا تنتهي بقيام نظام سياسي ديمقراطي.

هي ـ كما أسلفنا أعلاه ـ مهمة صعبة وشديدة التعقيد، لكنها ممكنة متى ما اتفقنا أولاً عليها كأساس تنطلق به ومنه المرحلة القادمة. كفانا مصادرة للرأي الآخر بأعذار واهية استخدمتها الأنظمة القمعية طويلاً، لتخويف الناس بعضها من بعض ولخلق الفرقة بين فئات المجتمع، لتبقى "الشلة الحاكمة" هي الملجأ الأول والأخير لفئات المجتمع المتصارعة على حق أو باطل! ففي ظل نظام جديد تحميه إرادة الناس، تلك التي شهدنا بعض ملامحها في ميدان التحرير ومياديين التغيير في العالم العربي، سنقول سياسياً لكل من يقدم وعود التغيير: الميدان يا حميدان! فمتى ما صوتت الناس لحركة أو حزب أو توجه، وجب احترام رغبة الغالبية.

وبالتالي تبدأ مسؤولية أصحاب الوعود في أن تحقق لناخبيها وعودها. لم يعد يجدي تخويف الناس من "الإسلام السياسي" أو من "القبيلة"، لأن غالبية الناس في عالمنا العربي (خاصة من فئة الشباب التي تشكل الغالبية الساحقة)، معنية بقضاياها الجوهرية اليومية من اقتصاد وإدارة، وهي أكثر التصاقاً بحقائق التغيير في محيطها وخارجه. العالم من حولنا يتغير في الساعة الواحدة، ومثلما نتأثر بالآخرين يتأثر بنا الآخرون. انظر في حراك الشباب الأمريكي الراهن في منطقة وول ستريت في نيويورك، من حفز الشباب هناك للتظاهر والاعتصام ضد المؤسسات المالية العملاقة في الولايات المتحدة الأميركية؟

أليست تجربة ميدان التحرير في القاهرة من التجارب التاريخية المدهشة حتى للمتظاهرين في وول ستريت؟ ألم نشاهد متظاهرين كثرا حول العالم يحملون لافتات كتب بعضها بالعربي تقول: ارحل؟! هذه المشاهد لا يمكن أن تختزل بأوصاف يرددها بعض الممتعضين من الربيع العربي، كأن يقال عنها "هامشية" أو "انفعالية". إنها ـ على الأقل هنا ـ نماذج لتفاعل الشباب حول العالم مع قضاياهم، وتأثرهم حتى بأدوات التعبير (حول العالم) في امتعاضهم من الفساد المالي والسياسي في محيطهم.

ولهذا فإن مشاركة جيل الشباب العربي في رسم "خارطة الطريق" لمستقبلهم، ضرورية وأساسية. وهم ليس فقط من يفترض أن يسهم في إدارة شؤونهم مستقبلاً، ولكنهم أيضاً وقود الحراك الذي يعيشه العالم العربي اليوم. هؤلاء قادرون على معرفة الأساليب الأصلح لتحقيق أجندات التنمية في مجتمعاتهم، ومثلما استطاعو بجدارة إشعال فتيل "الثورة" في أكثر من بلد عربي، فهم أيضاً قادرون في المستقبل القريب على قلب الطاولة في وجه أصحاب الوعود الكاذبة، والبحث ـ من جديد ـ عن بديل لا يُسخّر خطابات الدين والسياسة من أجل الوصول فقط إلى السلطة وتكرار المأساة!

نعم.. هي تجربة طويلة لن تحقق نتائجها في غمضة عين، لكنها تجربة ضرورية لا بد أن تبدأ من نقطة ما. إننا ـ على كل حال ـ نشهد بدايتها والبدايات عادة هي أصعب المراحل!