فَلنَستنِر بروح مؤسّسي أمّتنا

في الذكرى الأربعين لتأسيس دولتنا، يشدّني الحنين إلى ذكرياتي الشخصية مع المغفور لهما الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان والشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، اللذين كان لقوّة عزيمتهما الفضل في تأسيس الإمارات العربية المتحدة. لم يكن جمع سبع مشيخات تحت راية واحدة، بالمهمّة السهلة في حقبة كان الحكّام يخشون فيها خسارة استقلالهم الذاتي، وكانت الضغائن بين القبائل أمراً عادياً. لكن هذين الرجلين العظيمين ـ اللذين كان لي شرف معرفتهما ـ كانا مصرَّين على أن الاتحاد قوّة.

لقد تحلّى المؤسِّسان بالحكمة، مما سمح لهما بوضع خطّة لتحويل تجمّعات من القرى التي تعتاش من صيد السمك، والبلدات التجارية الصغيرة، إلى مدن كبيرة حديثة تحسدنا عليها المنطقة بأسرها. لقد بنيا معاً الإمارات العربية المتحدة على دعائم اقتصادية راسخة، وعملا من أجل أن يتمكّن جميع الإماراتيين من الشعور بالفخر والاعتزاز، وصنعا اتّحاداً أمّن لنا النفوذ الجيوسياسي، وساهم في حمايتنا ممّن يسعون وراء مواردنا الطبيعية.

كان الشيخ زايد والشيخ راشد المثل الأعلى لأبناء جيلي، ليس لخصال القيادة التي يتمتّعان بها وحسب، إنما أيضاً لصفاتهما الإنسانية اللافتة. كانا رجلَين بسيطين يحملان بذور العبقرية، وقادا دفّة السفينة عبر عقود من التغيير والنمو. واليوم وطنيّتهما وعزّتهما، إرث يفتخر به أبناؤنا وبناتنا الذين يفرضون احترامهم أينما سافروا.

غالباً ما استعدت بالذاكرة الأوقات التي أمضيتها مع هذين الرجلين المميّزين، وتذكّرتهما بشكل خاص خلال الأزمة الاقتصادية الجامحة عام 2008، التي عاثت خراباً في مختلف أنحاء الكرة الأرضية. فلا تزال الإمارات العربية المتحدة تشعر بآثار الأزمة، على غرار الولايات المتحدة وأوروبا وأماكن أخرى، ورغم أننا نجحنا في تضميد جروحنا، لم نتعافَ كلياً. لكن لولا الأسس التي أرساها الشيخ زايد والشيخ راشد، لما تمكّنا من الصمود في وجه الموجة العاتية التي جرفت كثراً معها.

ولا بد لنا أيضاً من شكر مؤسِّسَي أمّتنا وحكّام دول الخليج الأخرى، على قيامهم بإنشاء مجلس التعاون الخليجي، وإطلاقهم "قوّة درع الجزيرة" (قوّة التدخّل السريع التابعة لمجلس التعاون الخليجي) التي تشكّلت لإبعاد الطامعين. وأفكّر فيهما أيضاً كلما شهدت على تعذيب إخوة عرب لنا وقتلهم، لمجرّد أنهم يطلبون حياة كريمة في أجواء من الحرية. عالمنا العربي يتداعى، بيد أن القادة العرب يتردّدون في التحرّك ضد نظرائهم من رؤساء الدول، الذين يتصرّفون كديكتاتوريين همجيين كي يحتفظوا بالسلطة والامتيازات. لو كان الشيخ زايد والشيخ راشد طيّب الله ثراهما لا يزالان على قيد الحياة، لصُعِقا من هول ما يجري، وأنا واثق من أنهما كانا ليتوقّعا من مجلس التعاون الخليجي أن يبادر إلى إدانة الحكّام الذين يشهرون السلاح في وجه شعوبهم.

في هذه الأزمنة الاقتصادية العصيبة، يتطلّع الإماراتيون الآن إلى قادتهم ليوفّروا الوظائف للمواطنين والفرص في قطاع الأعمال. وأعتقد أن الطريق الأسرع لبلوغ هذه الأهداف، هو أن تحفّز الحكومة النشاط الاقتصادي من خلال الاستثمارات المرتكزة على مشاريع البنى التحتية، مثل الطرق والجسور والأنفاق ومحطّات الطاقة والمطارات والموانئ والمستشفيات ومصانع الطاقة المتجددة.

لا يجوز الآن أن تتباطأ عجلة البناء، كما يحصل في دولتنا. قد يكون التقشف الاقتصادي والسياسات الحذرة حلاً للبلدان ذات الديون المرتفعة، لكنّها بالطبع ليست مناسبة للإمارات العربية المتحدة.

عندما حصل التباطؤ الاقتصادي أوّل مرة، بادرت الحكومتان الصينية والأسترالية سريعاً إلى تخصيص مبالغ طائلة للبنى التحتية الجديدة، وقد نجحت هذه الاستراتيجية في إبعاد شبح الركود وتعزيز ثقة المستثمرين. على سبيل المثال، خصّصت الحكومة الأسترالية على الفور نحو 28 مليار دولار أميركي لبناء منازل ومدارس جديدة، وتركيب سقوف عازلة لنحو 2.7 مليونَ منزل، في حين حصلت السلطات المحلية على تمويل إضافي لتشييد بنى تحتية جديدة، وبادرت بخفض الضرائب على الأعمال الصغيرة التى ترغب في شراء أصول جديدة. وواجهت الحكومة الصينية أيضاً الأزمة بواسطة رزمة حوافز.

فقد تجاهل الصينيون تحذيرات النقّاد الذين اعتبروا أنه من الخطأ ضخ استثمارات كبيرة في اقتصاد يحقق أصلا نسب نمو عالية، وفتحوا صناديقهم المالية وأنفقوا 586 مليار دولار أميركي على بناء السكك الحديدية، وعلى قطارات الأنفاق والمطارات، وإعادة إعمار المباني التي تهدّمت في المناطق التي ضربتها الزلازل.

وسرعان ما سكت المتشائمون بعدما تبيّن أن التعافي الاقتصادي في الصين، أسرع منه في البلدان المتقدِّمة الأخرى. يدعو العديد من كبار الخبراء الاقتصاديين إلى اعتماد رزم حوافز، على أن يكون عمادها هو تطوير البنى التحتية.

وأنا معجب بشكل خاص بفلسفة بيتر دياموند الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2010، والذي قال لمحطة "إن بي آر" الإخبارية في بوسطن: "هناك غموض كبير الآن بين خطأ فعل القليل وخطأ فعل الكثير. يبدو لي أن فعل القليل هو خطر أكبر بكثير".

يعتبر دياموند أن الاستثمار في المشاريع العامة يستحقّ المجازفة بزيادة العجز. قال لمجلة "الإيكونوميست" إن "الحكومات لن تحظى أبداً بفرصة مماثلة لتشييد البنى التحتية في الاتّصالات السلكية واللاسلكية والنقل والطاقة" بهذه الكلفة الزهيدة، مضيفاً "إنها استثمارات طويلة الأمد ستعود بمكاسب لأجيال عدّة". فضلاً عن ذلك، ينبغي على الإمارات العربية المتحدة أن تنظر في اتّخاذ تدابير أخرى لبناء الثقة، إلى جانب توظيف مبالغ كبيرة في البنى التحتية، من أجل اجتذاب الاستثمارات والاحتفاظ بها، مثل:

* تولّي وكالة حكومية على الفور استكمال المشاريع غير المنجَزة أو المعطَّلة، وتقديم تعويضات عادلة للمالكين العاجزين عن إتمامها.

* تشكيل هيئة قانونية لإيجاد حلول سريعة للنزاعات بين الشركات شبه الحكومية والمتعاقدين.

* إقرار قوانين واضحة لا لبس فيها، حول تأشيرات الإقامة وتمويل الرهون العقارية.

* احترام الالتزامات التي تقطعها الكيانات الحكومية أو شبه الحكومية في العقود التجارية، كما هو متعارف عليه في البلدان المتقدّمة.

* إلزام الشركات الحكومية بالاستثمار في الإمارات لتحقيق الفائدة لأبناء البلاد، بدلاً من الاستثمار في الخارج.

وعلينا أيضاً أن نعمل على تحفيز مناخ صديق للمستثمر، عبر اتّخاذ تدابير مالية وضريبية إيجابية، من أجل أن تكون كلفة رأس المال منخفضة، وذلك عبر:

* تبسيط الإجراءات والقوانين التي تمكن الشركات التجارية من الحصول على التمويل المالي الذي تحتاجه، بكلفة اقتصادية.

* إعطاء توجيهات للمصارف كي تُقرِض المشاريع الاقتصادية الواعدة التي تشكّل حافزاً للنمو.

* تشجيع الاستثمارات عبر تطوير رزمة حوافز، من أجل "الاستثمارات الجديدة في مشاريع البناء الكبيرة". يمكن أن يشمل الدعم قروضاً بدون فوائد، ومحفّزات نقدية، وخفض رسوم الخدمات والضرائب المفروضة عليها، أو إعفائها من الضرائب لفترة تمتدّ من 15 إلى 20 عاماً.

لقد ردّ الشيخ راشد على منتقديه بكلام بات مضرباً للمثل: "إذا بنيتم، فسوف يأتون". لقد تحلّى مع الشيخ زايد بالشجاعة للسعي وراء النمو، رغم كل العوائق. إنهما الرجلان اللذان وضعا الإمارات العربية المتحدة على الخريطة، ولا نظير لهما. لا يكفي أن نتذكّرهما في العيد الوطني، بل يجب أن تبقى ذكراهما محفورة دائماً في قلوبنا.

كانا عملاقَين، ولهما في أعناق أمّتنا دين كبير لا يمكن تسديده. لم يكونا من نوع الأشخاص الذين يسعون إلى تخليد ذكراهم بالنصب والتماثيل ـ مع أنني أرغب في أن يرتفع تمثالان لهما لتذكير الشباب بتأثيرهما الكبير على حياتنا ـ لكن أقل ما يمكننا فعله، بمساعدة الحكومة، هو أن نسهر على البلاد التي أحبّاها كثيراً، وذلك عبر الاعتناء بشعبها وتثبيت أقدام اقتصادها على المسار الصحيح من جديد.