الحرية غير المسؤولة وثقافة الحقد والكراهية

ت + ت - الحجم الطبيعي

قبل أسابيع أصدرت مجلة "شارلي إيبدو" الفرنسية، عددا خاصا تحت اسم "شريعة إيبدو" تسخر فيه من الإسلام والمسلمين، وصرحت بأن رئيس تحرير العدد هو الرسول صلى الله عليه وسلم! وجاءت هذه الفعلة من قبل المجلة الفرنسية، بعد فوز حزب النهضة الإسلامي في تونس بنسبة كبيرة من مقاعد المجلس التأسيسي، وبعد إعلان المجلس الانتقالي في ليبيا تطبيقه الشريعة الإسلامية في الدستور الليبي الجديد. ما حدث من الصحيفة الفرنسية ومن قبلها الصحيفة الدانمركية وغيرها، يتنافى جملة وتفصيلا مع العمل الإعلامي الحرفي، المسؤول والملتزم. يتنافى مع رسالة الإعلام الشريفة والنبيلة، ويتنافى وقدسية الرموز الدينية مهما كانت وأينما كانت. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام هو: لصالح من مثل هذه الاستفزازات والتصرفات غير المسؤولة؟ وما الأهداف من ورائها؟ وماذا ستضيفه لخدمة الإنسانية ومبادئها وقيمها؟ وماذا ستضيفه لتأسيس وبناء قنوات التواصل والتفاهم بين الشعوب والأمم والحضارات والديانات؟ وإلى أي مدى ستخدم هذه الافتراءات والتهكمات وهذا الاستخفاف وهذه الصور، حوار الحضارات والثقافات والديانات والتقارب بين الشعوب؟

مثل هذه التصرفات بدلا من نشر ثقافة التفاهم والتسامح و التقريب، تعمق الفوارق والتضليل والتشويه وسوء التفاهم وانعدام الحوار، وانتشار الصور النمطية التي تفرز ثقافة الحقد والكراهية والبغضاء والعنصرية والجهل.

قيل كلام كثير عن الحوار بين الحضارات وحوار الديانات واحترام الآخرين ومعتقداتهم ودياناتهم، وقيل الكثير كذلك عن أن العولمة ستؤدي إلى تقارب الشعوب ودمقرطة الأنظمة، كما تؤدي إلى التفاهم والتسامح والتعاون. كما قيل كذلك أن تكنولوجيا الاتصال والإعلام، ستجعل من العالم قرية صغيرة تتعرف من خلالها شعوب العالم على بعضها بعضا، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة التفاهم والتحاور، وإلى قلة النزاعات والحروب وبؤر التوتر في العالم. كما قيل كذلك كلام كثير عن دور الإعلام في تقارب الشعوب والثقافات والحضارات والديانات، وأن الإعلام يلعب دورا استراتيجيا في نشر ثقافة التسامح والسلم واحترام الآخر، ومحاربة العنصرية والاستغلال والاستعمار والإرهاب واحتقار الآخر والاستهزاء به.

في 12 سبتمبر 2005 نشرت صحيفة "جيلاندز بوستن" الدانمركية، 12 رسما كاريكاتيريا مسيئا للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، مما أثار غضب المسلمين داخل الدانمارك وفي جميع أنحاء العالم. وفي 10 يناير 2006 أعادت صحيفة "مغازينات" النرويجية نشر الرسوم الكاريكاتيرية الـ12. تحدث هذه الإهانة والسخرية والانتقاص من قيمة الآخر والمساس بقدسية رموزه الدينية، باسم حرية التعبير وحرية الصحافة. إن شتم الديانات الأخرى وأنبيائها، يتناقض جملة وتفصيلا مع حرية التعبير وحرية الصحافة، حيث إنه لا توجد ديمقراطية أو نظام سياسي يسمح ويبيح التحريض على كراهية

أو شتم أو الانتقاص والاستهزاء بقيم ورموز الآخرين المقدسة.

والمؤسف لحادثة "شارلي إيبدو" والرسوم الكاريكاتيرية من قبلها، هو أن السلطات الدانمركية والفرنسية والمجتمع الرسمي والمدني في الدانمرك أو في فرنسا، لم يحرك ساكنا أمام ما حدث، وكأن شيئا لم يحدث. وهذا يعني أن الأمر عادي بالنسبة لهم، وأن الإساءة للآخرين ولمقدساتهم ودياناتهم لا تعني شيئا لهم. والدليل على ذلك أن استطلاعا للرأي العام، كشف أن أغلبية الدانمركيين لا يحبذون الاعتذار للمسلمين عما حدث، كمخرج وكحل للأزمة.

ما نجم عن صحف فرنسا والدانمرك والنرويج وفي دول أخرى، يخالف الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومواثيق وأخلاقيات الممارسة الإعلامية في معظم دول العالم، كما يتنافى مع مبدأ حرية الصحافة الذي يقوم على الالتزام باحترام الآخر واحترام معتقداته ودياناته. كما تخالف تلك التصرفات مقررات منظمة الأمم المتحدة في حوار الأديان والحضارات. بكل بساطة، هذه التصرفات تنم عن جهل وحقد وكراهية، وعن عدم المقدرة على التعايش مع الآخر، بل التفكير في تدميره والقضاء عليه والتخلص منه.

الأخطر في القضية كلها هو نتائج استطلاعات الرأي العام، التي جاءت لتكشف ما يدور في أذهان الناس العاديين. فالنتائج أكدت عدم الاعتراف بالخطأ، وعدم احترام معتقدات وديانات الآخرين. وهذا أمر خطير، لأنه يشير إلى ضعف درجة التسامح والتفاهم والحوار بين الشعوب. وهنا نلاحظ الدور العكسي والسلبي والخطير الذي يمكن أن تلعبه وسائل الإعلام في عصر العولمة والثورة المعلوماتية والمجتمع الرقمي، وعصر القرية العالمية. فبدلا من تشجيع الحوار والنقاش والتفاهم والتعرف على خصوصية الآخر وثقافته، نلاحظ أن الآلة الإعلامية في بعض المجتمعات المعاصرة، أصبحت تهدم أكثر مما تبني، وأصبحت تساهم في إثارة الفتن والحروب والنزاعات، أكثر من مساهمتها في نشر السلم والأمن والاستقرار والتقارب والمحبة والتلاحم والتفاهم بين الشعوب.

الحرية التي تطالب بها معظم المؤسسات الإعلامية في العالم، والتي يتغنى بها الكثيرون، أصبحت فارغة من محتواها الحقيقي، حيث إنها آلت إلى أشخاص لا يعرفون المعنى الحقيقي للحرية، ولا يعرفون الالتزام باحترام الآخر وخصوصيته. فالإساءة للرسول صلى الله عليه وسلم هي إساءة إلى كل البشرية، والسخرية من رسول الله صلى الله عليه وسلم هي سخرية من رسل الله كافة، وبالبشرية جمعاء.

يكيل الغرب بمكيالين، فالإساءة إلى رموزه أو قيمه ومعتقداته تعتبر خروجا عن الأصول وعن الأخلاقيات والمهنية والحرفية، أما المساس بمعتقدات وقيم الآخر فهي من المباحات. فالذي يجرؤ على الكلام في موضوع المحرقة ـ الهولوكوست - يحاكم قضائيا، ولا يعتبرون هذا مساسا بحرية الصحافة، أما الذي يسيء إلى الرسل والأنبياء والأديان ومعتقدات الآخرين، فهذا شيء طبيعي وممارسة لحرية التعبير والصحافة! فالتاريخ يذكرنا بمحاكمة رجاء غارودي، لا لشيء إلا لأنه قال الحقيقة وكذّب خرافة الهولوكوست، والأساطير التي أسست لدولة من العدم.

كما يذكرنا التاريخ بسلمان رشدي وتسليمة نسرين، والاحتفاء بهما في العواصم الغربية، لا لشيء إلا لأنهما أساءا للإسلام ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وهما لا يفقهان شيئا في الإسلام. الإشكال المطروح هنا، هو النية السيئة والخبيثة للمساس بالآخر، وللسخرية والتهكم والاستهزاء والإساءة. أين هو المشكل إذا اختار التونسيون والليبيون الشريعة كدستور لهم؟ أليسوا أحرارا في اختيار من يحكمهم وما النظام السياسي الذي يليق بهم؟ أليس لديهم الحق في اختيار من يمثلهم؟

أليست هذه هي الحرية التي يمجدها الغرب كما يدعي؟ هل تدخل المسلمون في الشؤون الداخلية للدانمارك أو فرنسا وغيرهما؟ والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما الفائدة من كل هذا؟ وما الدور الحقيقي لوسائل الإعلام؟ هل هو التوعية والتثقيف والتعليم والعمل على التقارب بين الشعوب والأمم والحضارات والديانات، أم أن الهدف هو نشر ثقافة الحقد والكراهية والصور النمطية والتضليل والتشويه والاستهتار والاستخفاف والاستهزاء بالآخرين؟!

 

كلية الاتصال، جامعة الشارقة

Email