هل مصطلح «العلمانية» مشتق من «العِلم» بكسر العين؟

إنه ليس كذلك على الإطلاق، ما هو إذاً؟

أولاً وقبل كل شيء ينبغي أن نسجل أنه مصطلح غربي صِرف. ثانياً: إنه يعبر عن مذهب فلسفي غربي. ثالثاً: أن من الثابت تاريخياً أن رائد هذا المذهب النظري فيلسوف إنجليزي يدعى جورج هوليوك.

وبالطبع فإن الأصل اللغوي الذي ابتكره هوليوك لمذهبه قد صيغ باللغة الإنجليزية وهو عبارة «Secularism».

وبما أن هوليوك صاحب المذهب فإنه أول من استخدم هذا المصطلح اللفظي.

هوليوك عاش في القرن التاسع عشر.. وطرح مذهبه تحديداً في عام 1851م. لكن ما هو هذا المذهب؟ أي ما طبيعة الطرح الفكري الفلسفي الذي قدمه؟

انقضى الآن نحو 160 عاماً منذ أن طرح هوليوك مذهبه، وخلال هذه الفترة الطويلة لم ينتشر فكره في أنحاء أوروبا بل صار تنظيراً عالمياً.

هنا أطلب منك أيها القارئ الكريم أن تفتح قاموساً للغة الإنجليزية لتعثر على كلمة «Secularism» ستجد أن تفسير هذه الكلمة هو كلمة «Worldly» أي «عالمي» ــ أي ما هو منسوب إلى «العَالم» (بفتح حرف اللام الثاني وليس «العِلم» بكسر العين).

لقد اخترع هوليوك هذا المصطلح ليشرح رؤيته التي تتلخص في إقامة نظام اجتماعي متحرر تماماً من الدين خاصة في شؤون السياسة والحكم. وانسجاماً مع هذه الرؤية فإنه يرفض تماماً ما أتت به الديانات السماوية من أن هناك عالماً آخر ينطوي على حساب وجنة وجحيم. وعليه فإنه يرى أن يوطن البشر أنفسهم على الحياة الدنيا «التي لا حياة بعدها».

بكلمات أخرى ينحصر مذهب هوليوك في الدنيا فقط وشؤونها المادية.

إذاً هناك خطأ في ترجمة اسم المذهب من الأصل الإنجليزي باستخدام كلمة «العلمانية» وكأنها مشتقة من «العلم». فالترجمة الصحيحة ينبغي أن تكون «العالمانية» اشتقاقاً من كلمة «العالم» ــ أي الدنيا. ولذا يصح أن نطلق على المذهب عبارة «المذهب الدنيوي».

مع التقدم المتسارع الخطى للمنظمات الإسلامية في عدد من البلدان العربية والإقبال الشعبي المتصاعد لطرحها الدين في شؤون الحكم والمجتمع يثير معارضوهم الكثير من الجدل بشأن مستقبل الحكم في العالم العربي طارحين مذهب «العلمانية»، لكن ليس واضحاً تماماً ما إذا كان العلمانيون الليبراليون العرب يتبنون طبيعة وتطور هذا المذهب في المجتمعات الغربية ماضياً وحاضراً.

المذهب العلماني بالمفهوم الغربي ينطوي على جوهر إلحادي. وبينما كان الخط الإلحادي صريحاً في الطروح التنظيرية التي قدمها هولـــــيوك ومن جاء بعده من المفكرين العلمانيين في الغرب، فإن الأمر على الصعيد التطبيقي اتخذ منحى متدرجاً في المجتمعات الأوروبية المعاصرة. فقد اقتصرت المرحلة الأولى من التطبيق على فصل الدين عن الحكم والشؤون السياسية.

ثم انتقلت بعد ذلك في مراحل متتالية إلى فصل الدين عن الحياة الاجتماعية للأفراد والأسر. بكلمات أخرى اندثرت بالتدرج قيم الديانة المسيحية لتحل محلها القيم الرأسمالية المادية. فقد شمل هذا التحول قيادات رجال الدين في مؤسسة الكنيسة، لدرجة أن هذه القيادات المفترض أنها حارسة القيم التي جاء بها عيسى المسيح (عليه السلام) تبنت تماماً تبريرات غريبة تجيز مثلاً الشذوذ الجنسي، بما في ذلك تجويز زواج الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة باسم الليبرالية.

وإجمالاً يمكن القول إن المذهب العالماني كما يطرحه مفكرو العصر في أوروبا والغرب عموماً هو المذهب الغالب في المجتمعات الغربية بما في ذلك معاداته للأديان السماوية.

وفي هذا السياق، فإن هؤلاء المفكرين يعتبرون أن التحرر من الدين وقيمه أحد حقوق الإنسان، بحيث إن التعاليم الدينية الأساسية التي تنادي بها الأديان السماوية لم تعد مرجعية للسلوك الفردي.

تأسيساً على هذا كله نفهم لماذا يخص مفكرو الغرب العلمانيون الدين الإسلامي بالقدر الأكثر والأعظم من العداء الفكري، لأن الإسلام ليس مجرد عبادات روحية، وإنما منهاج كامل للحياة الدنيا والحياة الأخرى ومنظومة من القيم والأحكام التي تنتظم كافة مناحي السلوك الإنساني في كافة المستويات ومراحل العُمر من المهد إلى اللحد.