المطلوب من الرئيس علي صالح

ت + ت - الحجم الطبيعي

اليوم الثلاثاء ستصل الثورة الشبابية الشعبية السلمية اليمنية إلى ذروتها، بذهاب اليمنيين إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم لانتخاب عبد ربه منصور هادي رئيساً جديداً لليمن، إيذاناً بإنهاء مرحلة كاملة من تاريخ اليمن المعاصر وفتح الأبواب لمرحلة جديدة..

فهذا التصويت الذي سيأتي بنتيجة محسومة سلفاً، هو في الأساس تصويت ضد مرحلة كاملة من جانب، وتصويت أشبه بالاستفتاء لصالح الثورة الشعبية اليمنية، التي لم تنه فحسب أطول العهود الجمهورية زمناً، بل أغلقت صفحة نصف قرن كامل من العهد الجمهوري، بدأ ثورياً شعبياً في 26 سبتمبر 1962، وانتهى مفرغاً من مضمونه الجمهوري إلى عهدة عائلية، وإن جاءت من أوساط الشعب اليمني وليس من العائلات التقليدية التي تعودت حكم اليمن طوال القرون الماضية، وهو ـ لعمري ـ وجه آخر من وجوه الاستيلاء على حريات الناس وحقوقهم، سواء كانت باسم الدين والمذهب، أو بسطوة القوة والنفوذ والمال.. وهكذا كان على شعب ثورتي سبتمبر وأكتوبر، أن يستعيد حريته وحقه في الحكم، حيث سيحتفل اليمنيون هذا العام بمرور نصف قرن على اندلاع ثورة الحرية الأولى، في غياب أي نمط من أنماط الحكم الفردي أو العائلي أو القبلي.

لذلك يأخذ التصويت اليوم أبعاداً رمزية أكثر منها ديمقراطية وتنافسية فعلية، فهو تصويت ضد مرحلة إفراغ جوهر ثورة سبتمبر من مضمونه.. وهو تصويت ضد مرحلة إفراغ الوحدة اليمنية من مضمونها.. وهو تصويت ضد إفراغ الديمقراطية من مضمونها.. وهو ليس تصويتاً بالضرورة لشخص عبد ربه منصور هادي، لكنه تصويت لرمزية اختياره رئيساً جديداً لليمن، فهو أول رئيس لليمن الموحد يأتي من الجنوب، وأول رئيس سيأتي بقوة الإرادة الثورية الشعبية، وليست الإرادة الثورية النخبوية أو الإرادة الثورية العسكرية، وهو أول رئيس سينتخب وليس أحد من أفراد عائلته أو قبيلته مهيمنين على وحدات الجيش والأمن.

إن هادي سيأتي كمرشح توافقي وحيد، لكنه في الحقيقة ينافس عهد سلفه الرئيس علي عبد الله صالح، الذي هيمن على الحياة السياسية اليمنية، بنفوذ القوة والمال والفساد والعائلة وسلطة الأمر الواقع، وكل ما عدا ذلك لم يكن إلا ديكوراً توافقت عليه القوى السياسية في لحظات عجزها، وتمردت عليه يوم أن خرج الشباب بصدورهم العارية يضحون من أجل تغييره.

اليوم سيعيش الرئيس علي عبد الله صالح آخر يوم له قبل أن يصبح منذ الغد أو بعد الغد الرئيس السابق، وهي حقيقة يستوعبها هو جيداً، وعمل لها منذ أول شهرين في الثورة الشعبية الشبابية، وتحديداً عقب مذبحة جمعة الكرامة التي أدرك خلالها حجم الخطأ والخطيئة التي حدثت، والتي لن يجد مفراً منها إلا بمخرج يصوغه هو بعناية، فكان له ذلك ونجح في الخروج من السلطة بأقل قدر من الخسائر، وبقدر كبير من الأمان والأموال، وبالطريقة التي يفضلها هو، حتى وإن تضاءلت فيها فرص الخروج المشرف إلى أقل مستوى ممكن، لأنه مع كل شهر جديد يمضيه في الحكم فيما الثورة الشعبية متوقدة، كانت فرص الخروج المشرف تضيق أكثر.. لكنه في النهاية يظل الأفضل حظاً من أقرانه؛ التونسي والمصري والليبي والسوري، والأكثر ذكاء بلا ريب.

ولي أن أتخيل مشاعر الرئيسين السابقين زين العابدين بن علي وحسني مبارك، وهما يريان علي عبد الله صالح وبراعته في مغادرة السلطة مقارنة بهما، ولا أظنهما سيفعلان شيئاً سوى تسبيح الله في ملكه.. وعلى الأغلب سيعود علي عبد الله صالح خلال اليومين القادمين إلى صنعاء، ليشهد الفصل الأخير من فترة حكمه الطويلة، وهو فصل يحلم بأن يؤديه، وأظن أنه سيؤديه ببراعة، من خلال حفل تسليم السلطة للرئيس المنتخب الجديد ومشهد ركوبه السيارة وهو يغادر دار الرئاسة إلى منزله، ومن ثم المغادرة إلى خارج اليمن، حيث سيشهد وداعاً رسمياً يذكرنا بمشهد الوداع الذي حظي به الرئيس الأسبق القاضي عبد الرحمن الإرياني.

في ظني أنه من المفيد أن يحظى الرئيس صالح بهذا الفصل الأخير، لكن عليه في المقابل أن يجعل منه فصلاً أخيراً بالفعل، يطوي به صفحة حكمه وصفحة نفوذ عائلته في الحكم، ليتم ذلك بيده لا بيد العهد الجديد، إذ يكفي الرئيس صالح وعائلته عملية الابتزاز العاطفي التي ظلوا يمارسونها مع أنصارهم طوال عام كامل.. فيما كانت العائلة مشغولة سراً بترتيب أوضاعها الخاصة من نقل الحسابات الشخصية وتأمينها، وترتيب مواقع الاستقرار الجديدة في الخارج، والتصرف في الوثائق الرسمية التي قد تكون فيها أدلة إثبات ضدهم في قضايا فساد أو قمع.. كل ذلك كان يجري فيما الأنصار يحلمون باليوم الذي سيتم فيه القضاء على الثورة وعودة حليمة لعادتها القديمة، وهذا الأمر مستمر في الحقيقة وببراعة شديدة، إلى هذه اللحظة.

لكن هؤلاء الأنصار لو كانوا يقرؤون مسارات التاريخ بشكل سوي، ولو كانوا يدركون سنن الله في الكون والحياة، ولو كانوا يقرؤون الخارطة الشعبية الداخلية جيداً، ويقرؤون الموقف الإقليمي والدولي بشكل صحيح، ولو كانوا يفهمون معنى المثل الشعبي اليمني البسيط «من غاب، غاب اسمه»، لكانوا اختاروا لأنفسهم موقفاً مشرفاً منذ وقت مبكر، ولكانوا انحازوا لإرادة التغيير العارمة، ولما أصبحوا ضحية لنظام متهاوٍ ظل يعشمهم بالمستحيل، ويحييهم على أحلام يقظة تقوم أساساً على دوران عجلة التاريخ إلى الوراء، وهو أمر لم يحدث طوال تاريخ البشرية.

لذلك يجدر بالرئيس صالح أن يقول لأنصاره، وهو يؤدي الفصل الأخير من حياته السياسية ويسلم السلطة للرئيس هادي، إن عهده انتهى وإنه لن يمارس أي دور سياسي مجدداً، ليخفف من احتقان من تبقى من أنصاره وانشدادهم للمجهول، وأن يسحب من تبقى من عائلته بهدوء من مواقعهم العسكرية والأمنية. فبقدر ما يدرك هو حقيقة الإجماع الشعبي والسياسي والإقليمي والدولي، الذي أجمع بشكل غير مسبوق على إزاحته من الحكم، يدرك أيضاً أنه هو ذات الإجماع الذي جاء بعبد ربه منصور رئيساً للبلاد، وجاء بالمعارضة لترأس حكومة الوفاق التي ستنجز من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والأمنية ما كان ينبغي أن ينجزه هو طوال الأعوام السابقة ولم يفعل.. وعلى من تبقى من أنصاره أن يفهموا الرسالة، بدلاً من العيش في ظل أحلام يقظة مستحيلة التحقق!

 

Email