يتعامل كثير من الناس مع العلاقات في حياتهم على أنها تحصيل حاصل، باعتبارها نتاجاً طبيعياً لحركة التناسل والتواصل التي يعيشونها، وأن هذه العلاقات تتكون في حياتهم كنتيجة حتمية لصلات الدم والقرابة وتكاثر هذه الصلات بتناسل هؤلاء الأقرباء، وكذلك مع تواصلهم مع الناس الآخرين في محيطهم، كالجيران والزملاء والمعارف في الأماكن المختلفة.. وهكذا.

وهذه النظرة على مستواها التجريدي، صحيحة ولا شك، لكن الأمر في صميمه الإنساني يتجاوز ذلك بكثير، فالناس ليسوا مجرد أرقام حسابية تتزايد وتتناقص من حولنا، بل هي شبكة من الأرواح والنفسيات والعقول التي ترتبط بنا وتشتبك، فتؤثر وتتأثر، وبمقدار ذلك ينعكس الأمر على شتى جوانب حياتنا وحياتها، على مستوى الصحة النفسية والجسدية، وعلى النجاح والفشل، وعلى الهناءة والتعاسة، وهكذا. ولهذا، كان من الخطأ الكبير أن لا ننتبه إلى حركة هذه العلاقات في حياتنا، ولا نجس نبضها صعوداً وهبوطاً.

علاقاتنا المرتبطة بصلات الرحم والقرابة والنسب، لا يمكن لنا أن نمنعها، ولهذا فعلينا أن نتعاطى معها بقدرها الذي تستحقه، والتوجيهات في شرعنا الحنيف في هذا الشأن كثيرة، ولعل أقربها إلى موضوعنا هو حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحب أن يُبسط له في رزقه وأن يُنسأ له في أثره فليصل رحمه"، وفي هذا دليل على أن رعاية هذه الصلات سيكون له بالغ الأثر في معيشة الإنسان وهناءته وفي طيب وبركة تأثيره.

وأما تلك العلاقات التي تتكون خارج صلة الرحم والقرابة والنسب، فمن الواجب أن ننتبه لحركة اقترابها وابتعادها منا، فنكون مدركين تمام الإدراك لمن هم أحباؤنا وأصدقاؤنا، ومن هم زملاؤنا، ومن هم معارفنا فحسب، لأن لكل واحدة من هذه المراتب مقتضيات في التعامل والتزامات في الأخذ والعطاء.

وتشديدي على أهمية هذا الجانب، نابع من أن كثيرا من الناس يقعون في الخلط الكبير بينها، فتراهم، على سبيل المثال، يتباسطون مع الزميل كتباسطهم مع الصديق، أو ينكشفون للمعارف كانكشافهم للزملاء أو ربما للأصدقاء. والعكس يحصل أحيانا، فتراهم ربما ينصرفون للاهتمام بالمعارف أو الزملاء أكثر من اهتمامهم بالأصدقاء وربما الأحبة، في حين أن لكل واحد من هؤلاء مكانة وقدراً، يفترض أن يكون واضحاً ومصاناً.

وسأقدم من خلال السطور التالية، نصائح مركزة وسريعة، يمكن إسقاطها على سائر العلاقات في حياتنا، علها تكون ذات فائدة.

أولاً، من المهم أن نتذكر أن كل علاقة إنسانية في حياتنا تحتاج إلى جهد لصيانتها والحفاظ عليها، وكلما زاد اقتراب الشخص منا، كان المفترض أن نقدم ما هو أكثر للحفاظ على تلك العلاقة.

ثانيا، بمقدار ما نعطي أي علاقة من تقدير واهتمام، فإننا سنجد غالبا مثل ذلك في المقابل، فالأمر كالاستثمار، كلما وضعنا حباً حقيقياً وعطفاً صادقاً وحناناً دافئاً واهتماماً عميقاً وصبرنا على ذلك، فسنجد الحب والعطف والحنان والاهتمام بذات القدر من الطرف الآخر.

ثالثا، لا يجب أن نحاول إدخال أنفسنا عنوة في حياة أي إنسان كان، فالعلاقات الإنسانية يجب أن تجري كجريان مياه الأنهار. تنساب بسهولة، وتنحرف حول العوائق لتبلغ غاياتها. لنقدم أنفسنا على طبيعتها في أجمل حالاتها، وستجري المقادير في مساراتها التي قدرها الخالق.

رابعا، كل العلاقات التي تظهر في حياتنا وقد تختفي، لم تكن عبثا، فبعض تلك العلاقات التي آلمتنا، مثلا، كانت هي التجربة التي جعلتنا جاهزين للتجربة الناجحة التي تلتها، وبعض تلك العلاقات الجميلة التي سرعان ما اختفت من حياتنا، كانت هي التي جعلتنا أكثر قوة وأكثر عمقاً وأكثر ارتباطاً بالرائعين الآخرين في هذه الحياة.

خامسا، كل الناس يتغيرون مع مضي الزمن، ونادرا ما سنجد شخصا لا يتغير في الطباع والتصرفات، ولذلك فمن الحكمة أن نكون مهيئين لحصول هذا من الأشخاص الذين نرتبط بهم ويعنون لنا شيئا، وأن يكون لدينا من المرونة ما يكفي لتقبل تغيراتهم إلى حد معقول، ولنتذكر أننا معرضون للتغير أيضا.

سادسا، السعادة في أي علاقة نعيشها، ترتبط بنا نحن في المقام الأول، وليست مرتهنة وحسب بعطاء الطرف الآخر. عندما تسوء علاقتنا بشريك حياتنا، أو بأحد من أهلنا أو بصديق لنا، ونكون جازمين تماما بأنها غلطته، فلنراجع أنفسنا ونتساءل؛ هل قصرنا أو أخطأنا نحن بشيء؟ وماذا يمكننا أن نفعل لإصلاح الأمور؟

سابعا، لا يصح أن تقوم العلاقات الإنسانية على الندية والتناطح، وخصوصا العاطفية منها، فعندما يعني لنا الطرف الآخر شيئا كبيرا، يكون من مقتضيات المحبة أن نسامحه، وأن نتنازل إكراما لعينه، وأن نرخي الحبل عندما يشده، فنمسك بزمام الغضب لنقابل الجبهة الساخنة بجبهة لطيفة باردة، حتى يتجاوز المركب العاصفة.

ثامنا، بعض العلاقات في حياتنا، ومهما حاولنا أن نصلحها، ستظل عبئا ثقيلا علينا، لأنها ستظل تجعلنا نتخلى عن الكثير من أنفسنا، وربما حتى نفقدها تماما. لذلك فعلينا أن نتحلى بالشجاعة لنتخلى عن هذه العلاقات حين نكتشفها، هذا إن كانت من التي يمكننا فك الارتباط بها بطبيعة الحال، لأن الاستمرار في مثل هذه العلاقات المسمومة سيؤذي كلا من الطرفين، وربما سيتجاوز إلى الإضرار بأطراف أخرى.

هذه كانت مجموعة من النصائح المركزة المختصرة ـ وغيرها يوجد الكثير طبعا ـ التي أؤمن بأن الإنسان لو تذكرها دوماً وأحسن تطبيقها، فسيرجع بنفع كبير على علاقاته بالناس من حوله. تمنياتي لكم جميعاً بعلاقات إنسانية جميلة مثمرة.